الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***
المتن: وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَهْرًا غَنِيمَةٌ، وَكَذَا مَا أَخَذَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ مِنْ دَارٍ الْحَرْبِ بِسَرِقَةٍ، أَوْ وُجِدَ كَهَيْئَةِ اللُّقَطَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ لِمُسْلِمٍ وَجَبَ تَعْرِيفُهُ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ أَمْوَالِ الْحَرْبِيِّينَ، فَقَالَ: (وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَهْرًا) عَلَيْهِمْ حَتَّى سَلَّمُوهُ أَوْ تَرَكُوهُ وَانْهَزَمُوا (غَنِيمَةٌ) لِمَا مَرَّ فِي كِتَابِ قَسْمِهَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: الْمَالُ الَّذِي أَخَذْنَاهُ لِيُخْرِجَ مَا أَخَذَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ بِغَنِيمَةٍ، وَإِنَّمَا أَعَادَ ذَلِكَ هُنَا لِضَرُورَةِ التَّقْسِيمِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَ كَذَا مَا أَخَذَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ مِنْ دَارٍ الْحَرْبِ بِسَرِقَةٍ) أَوْ نَحْوِهَا وَلَمْ يَدْخُلْهَا بِأَمَانٍ (أَوْ) لَمْ يُؤْخَذْ سَرِقَةً، بَلْ كَانَ هُنَاكَ مَالٌ ضَائِعٍ (وُجِدَ كَهَيْئَةِ اللُّقَطَةِ) فَأَخَذَهُ شَخْصٌ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لِلْكُفَّارِ فَإِنَّهُ فِي الْقِسْمَيْنِ غَنِيمَةٌ (عَلَى الْأَصَحِّ) الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ دَارَ الْحَرْبِ وَتَغْرِيرَهُ بِنَفْسِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْقِتَالِ، وَالثَّانِي هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ خَاصَّةً، وَادَّعَى الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ سَبَبُ الْوُصُولِ إلَى اللُّقَطَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ هُرُوبَهُمْ خَوْفًا مِنَّا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَإِنَّهَا فَيْءٌ قَطْعًا وَأَمَّا إذَا كَانَ بِقِتَالِنَا لَهُمْ فَهُوَ غَنِيمَةٌ قَطْعًا. ثُمَّ مَا سَبَقَ إذَا لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُ لِمُسْلِمٍ، (فَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ) أَيْ الْمُلْتَقَطِ (لِمُسْلِمٍ) بِأَنْ كَانَ ثَمَّ مُسْلِمٌ (وَجَبَ تَعْرِيفُهُ) فَإِذَا عَرَّفَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ يَكُونُ غَنِيمَةً. تَنْبِيهٌ: لَمْ يُصَحِّحْ الشَّيْخَانِ شَيْئًا فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، بَلْ نَقْلًا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يُعَرِّفُهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، قَالَ: وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ: يَكْفِي بُلُوغُ التَّعْرِيفِ إلَى الْأَجْنَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْلِمٌ سِوَاهُمْ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى احْتِمَالِ مُرُورِ التُّجَّارِ، وَعَنْ الْمُهَذَّبِ وَالتَّهْذِيبِ يُعَرِّفُهُ سَنَةً. ا هـ. وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي التَّرْجِيحِ، فَاعْتَمَدَ الْبُلْقِينِيُّ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَنَقَلَهُ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ، وَقَالَ: إنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَاعِدَةِ اللُّقَطَةِ، فَتُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ إطْلَاقِ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ سَنَةً فِي غَيْرِ الْحَقِيرِ. وَقَالَ: الزَّرْكَشِيُّ: يُشْبِهُ حَمْلَ الْأَوَّلِ: أَيْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ عَلَى الْخَسِيسِ، وَقَالَ: الْأَذْرَعِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ لُقَطَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي التَّعْرِيفِ. ا هـ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
المتن: وَلِلْغَانِمِينَ التَّبَسُّطُ فِي الْغَنِيمَةِ بِأَخْذِ الْقُوتِ وَمَا يَصْلُحُ بِهِ وَلَحْمٍ وَشَحْمٍ وَكُلِّ طَعَامٍ يُعْتَادُ أَكْلُهُ عُمُومًا، وَعَلَفُ الدَّوَابِّ تِبْنًا وَشَعِيرًا وَنَحْوَهُمَا، وَذَبْحُ مَأْكُولٍ لِلَحْمِهِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الْفَاكِهَةِ، وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ قِيمَةُ الْمَذْبُوحِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمُحْتَاجِ إلَى طَعَامٍ وَعَلَفٍ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ: (وَلِلْغَانِمِينَ) مِمَّنْ يُسْهِمُ لَهُمْ أَوْ يَرْضَخُ وَلَوْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ (التَّبَسُّطُ فِي الْغَنِيمَةِ) قَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ (بِأَخْذِ الْقُوتِ) مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ لَا التَّمْلِيكِ يَنْتَفِعُ بِهِ الْآخِذُ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَوَقَعَ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ: أَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَلَا يُصْرَفُ لِغَيْرِهِ. تَنْبِيهٌ: نَبَّهَ بِالْقُوتِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ الْأَمْوَالِ، كَسِلَاحٍ وَدَابَّةٍ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْمَلْبُوسِ لِبَرْدٍ أَوْ حَرٍّ أَلْبَسَهُ الْإِمَامُ لَهُ، إمَّا بِالْأُجْرَةِ مُدَّةَ الْحَاجَةِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الْمَغْنَمِ، أَوْ يَحْسِبُهُ عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ، (وَ) لِلْغَانِمِينَ التَّبَسُّطُ أَيْضًا بِأَخْذِ (مَا يَصْلُحُ بِهِ) الْقُوتُ، كَزَيْتٍ وَسَمْنٍ وَعَسَلٍ وَمِلْحٍ (وَلَحْمٍ) لَا لِكِلَابٍ وَبَازَاتٍ (وَشَحْمٍ) لَا لِدَهْنِ الدَّوَابِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْأَكْلِ، فَلَوْ قَالَ: كَلَحْمٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ مِثَالًا لِمَا يَصْلُحُ بِهِ لَكَانَ أَوْلَى (وَ) لَهُمْ التَّبَسُّطُ أَيْضًا بِأَخْذِ (كُلِّ طَعَامٍ يُعْتَادُ أَكْلُهُ) لِلْآدَمِيِّ (عُمُومًا) أَيْ عَلَى الْعُمُومِ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: {كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ}. وَالْمَعْنَى فِيهِ عِزَّتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ غَالِبًا لِإِحْرَازِ أَهْلِهِ لَهُ عَنَّا، فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ مُبَاحًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَفْسُدُ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ نَقْلُهُ، وَقَدْ تَزِيدُ مُؤْنَةُ نَقْلِهِ عَلَيْهِ. قَالَ: الْإِمَامُ: وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِمْ سُوقًا وَتَمَكَّنَ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ جَازَ التَّبَسُّطُ أَيْضًا إلْحَاقًا لِدَارِهِمْ فِيهِ بِالسَّفَرِ فِي الرُّخْصِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّا لَوْ جَاهَدْنَاهُمْ فِي دَارِنَا امْتَنَعَ التَّبَسُّطُ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا عَلَى مَحِلٍّ لَا يَعِزُّ فِيهِ الطَّعَامُ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: عُمُومًا عَمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ نَادِرًا: كَالسُّكَّرِ وَالْفَانِيدِ وَالْأَدْوِيَةِ، فَلَا يَلْحَقُ بِالْأَطْعِمَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ احْتَاجَ مَرِيضٌ مِنْهُمْ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَعْطَاهُ لَهُ الْإِمَامُ بِقِيمَتِهِ أَوْ يَحْسِبُهُ عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ، فَإِنْ احْتَاجَ شَخْصٌ مِنْهُمْ إلَى الْقِتَالِ بِالسِّلَاحِ جَازَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ وَيَرُدُّهُ إلَى الْمَغْنَمِ بَعْدَ زَوَالِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِعْمَالٌ، وَلَوْ اضْطَرَّ إلَى الْمَرْكُوبِ فِي الْقِتَالِ فَلَهُ رُكُوبُهُ بِلَا أَجْرٍ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا كَالْقِتَالِ بِالسِّلَاحِ. (وَ) لَهُمْ (عَلَفُ الدَّوَابِّ) الَّتِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي الْحَرْبِ، كَفَرَسِهِ وَدَابَّةٍ تَحْمِلُ سِلَاحَهُ وَلَوْ كَانَتْ عِدَدُ الْوَاحِدِ (تِبْنًا وَشَعِيرًا وَنَحْوَهُمَا) كَفُولٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَيْهِ كَمُؤْنَةِ نَفْسِهِ. أَمَّا مَا يَسْتَصْحِبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ لِلزِّينَةِ أَوْ لِلْفُرْجَةِ كَفُهُودٍ وَنُمُورٍ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَفُهَا مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ قَطْعًا.
تَنْبِيهٌ: الْعَلَفُ هُنَا بِفَتْحِ اللَّامِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَا تَأْكُلُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سَاكِنَةً، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ (وَ) لَهُمْ (ذَبْحُ) حَيَوَانٍ (مَأْكُولٍ لِلَحْمِهِ) عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُؤْكَلُ عَادَةً، فَهُوَ كَاللَّحْمِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لِنُدْرَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجِبُ رَدُّ جِلْدِهِ إلَى الْمَغْنَمِ إلَّا مَا يُؤْكَلُ مَعَ اللَّحْمِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ الْجِلْدِ سِقَاءً وَلَا خُفًّا وَلَا غَيْرَهُمَا، فَإِنْ فَعَلَ وَجَبَ رَدُّ الْمَصْنُوعِ كَذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ لَهُ إنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ بِالصَّنْعَةِ، وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ إنْ نَقَصَتْ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ (وَالصَّحِيحُ) الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُور (جَوَازُ) أَكْلِ (الْفَاكِهَةِ) رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا لِلْخَبَرِ الْمَارِّ فِي الْعِنَبِ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِنُدْرَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا . قَالَ: الْإِمَامُ: وَالْحَلْوَاءُ، كَالْفَاكِهَةِ (وَ) الصَّحِيحُ (أَنَّهُ لَا تَجِبُ قِيمَةُ الْمَذْبُوحِ) لِأَجْلِ أَكْلِ لَحْمِهِ كَمَا لَا يَجِبُ قِيمَةُ الطَّعَامِ الْمَأْخُوذِ، وَالثَّانِي يَجِبُ؛ لِأَنَّ التَّرَخُّصَ وَرَدَ فِي الطَّعَامِ، وَالْحَيَوَانُ لَيْسَ بِطَعَامٍ، وَالصَّحِيحُ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُهُ هُنَا وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَصَحِّ فِيهِمَا (أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمُحْتَاجِ إلَى طَعَامٍ وَعَلَفٍ) بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ، بَلْ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ فِي الْأَصَحِّ، فَإِنَّ الرُّخْصَةَ وَرَدَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَالثَّانِي يَخْتَصُّ بِالْمُحْتَاجِ لِاسْتِغْنَاءِ غَيْرِهِ عَنْ أَخْذِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ قَلَّ الطَّعَامُ وَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، نَقَلَ الْإِمَامُ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّ الْإِمَامَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ وَيَقْسِمُهُ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ. قَالَ: الْبَغَوِيّ: وَلَهُمْ التَّزَوُّدُ لِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَيْنَ أَيْدِيهمْ. تَنْبِيهٌ: إنَّمَا يَجُوزُ التَّبَسُّطُ وَالتَّزَوُّدُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَمَنْ أَكَلَ فَوْقَ حَاجَتِهِ لَزِمَهُ بَدَلُهُ. قَالَ: الزَّرْكَشِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: بِهِ فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
المتن: وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْحِيَازَةِ، وَأَنَّ مَنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ بَقِيَّةٌ لَزِمَهُ رَدُّهَا إلَى الْمَغْنَمِ.
الشَّرْحُ: (وَ) الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ (أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ) أَيْ التَّبَسُّطُ الْمَذْكُورُ (لِمَنْ لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْدَ) انْقِضَاءِ (الْحَرْبِ، وَ) بَعْدَ (الْحِيَازَةِ)؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمْ كَغَيْرِ الضَّيْفِ مَعَ الضَّيْفِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ لِمَظِنَّةِ الْحَاجَةِ وَعِزَّةِ الطَّعَامِ هُنَاكَ. تَنْبِيهٌ: عِبَارَةُ الْكِتَابِ وَالْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ تُفْهِمُ جَوَازَ التَّبَسُّطِ فِيمَا إذَا لَحِقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَقَبْلَ الْحِيَازَةِ، وَعِبَارَةُ الرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحِ تَقْتَضِي الْمَنْعَ لِغَيْرِ شَاهِدِ الْوَقْعَةِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ. فَرْعٌ: لَوْ ضَيَّفَ بِمَا فَوْقَ حَاجَتِهِ الْغَانِمِينَ جَازَ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا تَحَمُّلُ التَّعَبِ عَنْهُمْ، فَإِنْ ضَيَّفَ بِهِ غَيْرَهُمْ: فَكَغَاصِبٍ ضَيَّفَ غَيْرَهُ بِمَا غَصَبَهُ فَيَأْثَمُ بِهِ، وَيَلْزَمُ الْآكِلَ ضَمَانُهُ، وَيَكُونُ الْمُضِيفُ لَهُ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ (وَ) الصَّحِيحُ وَجَعَلَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا هَذَا الْخِلَافَ أَقْوَالًا (أَنَّ مَنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ) أَوْ دَارِ يَسْكُنُهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ أَوْ الْعَهْدِ، وَهِيَ فِي قَبْضَتِنَا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ (وَمَعَهُ بَقِيَّة) مِمَّا تُبْسَطُ بِهِ (لَزِمَهُ رَدُّهَا إلَى الْمَغْنَمِ) أَيْ الْغَنِيمَةِ لِزَوَالِ الْحَاجَةِ، وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مُبَاحٌ، وَالْأَوَّلُ قَالَ: بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ. تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ الرَّدِّ إلَى الْمَغْنَمِ مَا لَمْ تُقَسَّمْ الْغَنِيمَةُ، فَإِنْ قُسِّمَتْ رَدَّ إلَى الْإِمَامِ، ثُمَّ إنْ كَثُرَ قُسِّمَ، وَإِلَّا جُعِلَ فِي سَهْمِ الْمَصَالِحِ قَالَ: الْإِمَامُ: وَلَا رَيْبَ أَنَّ إخْرَاجَ الْخُمْسِ مِنْهُ مُمْكِنٌ، وَإِنَّمَا هَذَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ.
المتن: وَمَوْضِعُ التَّبَسُّطِ دَارُهُمْ، وَكَذَا مَا لَمْ يَصِلْ عُمْرَانِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَمَوْضِعُ التَّبَسُّطِ دَارُهُمْ) أَيْ أَهْلِ الْحَرْبِ جَزْمًا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعِزَّةِ (وَكَذَا) مَحِلُّ الرُّجُوعِ (مَا لَمْ يَصِلْ) إلَى (عُمْرَانِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَصَحِّ) لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِنْ وَصَلَهُ انْتَهَى التَّبَسُّطُ لِزَوَالِهَا. وَالثَّانِي الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ دَارُ الْحَرْبِ، وَقَدْ خَرَجُوا عَنْهَا. تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِعِمْرَانِ الْإِسْلَامِ مَا يَجِدُونَ فِيهِ حَاجَتَهُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، فَلَوْ لَمْ يَجِدُوا فِيهَا ذَلِكَ فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي مَنْعِ التَّبَسُّطِ فِي الْأَصَحِّ لِبَقَاءِ الْمَعْنَى، وَكَدَارِ الْإِسْلَامِ بَلَد أَهْلِ ذِمَّةٍ أَوْ عَهْدٍ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ مُعَامَلَتِنَا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُضَافَةً إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ فِي قَبْضَتِنَا بِمَثَابَتِهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ، نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ. فُرُوعٌ: لَوْ كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِنَا فِي مَوْضِعِ يَعِزُّ الطَّعَامُ وَلَا يَجِدُونَهُ بِشِرَاءٍ جَازَ لَهُمْ التَّبَسُّطُ أَيْضًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فِيمَا تُزَوِّدُوهُ مِنْ الْمَغْنَمِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ، فَلَوْ أَقْرَضَ مِنْهُ غَانِمٌ غَانِمًا آخَرَ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ مِنْ الْمَغْنَمِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ رَدَّهُ مِنْ الْمَغْنَمِ صَارَ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِهِ لِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِهِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ، إذْ لَيْسَ ذَلِكَ قَرْضًا مُحَقِّقًا؛ لِأَنَّ الْآخِذُ لَا يَمْلِكُ الْمَأْخُوذَ حَتَّى يُمَلِّكَهُ لِغَيْرِهِ، فَلَوْ رَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَأْخُذهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَمْلُوكِ لَا يُقَابَلُ بِالْمَمْلُوكِ، وَإِنْ فَرَغَ الطَّعَامُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ أَوْ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَعِزَّ الطَّعَامُ رَدَّهُ الْمُقْتَرِضُ إلَى الْإِمَامِ لِانْقِطَاعِ حُقُوقِ الْغَانِمِينَ عَنْ أَطْعِمَةِ الْمَغْنَمِ، فَإِنْ بَقِيَ غَيْرُ الْمُقْتَرَضِ رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ، وَلَوْ تَبَايَعَ غَانِمَانِ مَا أَخَذَاهُ صَاعًا بِصَاعٍ أَوْ بِصَاعَيْنِ فَكَتَنَاوُلِ الضَّيْفَيْنِ لُقْمَةً بِلُقْمَةٍ أَوْ بِلُقْمَتَيْنِ، فَلَا يَكُونُ رِبًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مُحَقَّقَةٍ، بَلْ يَأْكُلُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا صَارَ إلَيْهِ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ.
المتن: وَلِغَانِمٍ رَشِيدٍ وَلَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِفَلَسِ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ بَعْدَ فَرْزِ الْخُمُسِ وَجَوَازِهِ لِجَمِيعِهِمْ، وَبُطْلَانُهُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَسَالِب.
الشَّرْحُ: (وَلِغَانِمٍ) حُرٍّ (رَشِيدٍ وَلَوْ) هُوَ مَرِيضًا أَوْ سَكْرَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ أَوْ (مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِفَلَسٍ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْغَنِيمَةِ) أَيْ عَنْ حَقِّهِ مِنْهَا سَهْمًا كَانَ أَوْ رَضْخًا (قَبْلَ الْقِسْمَةِ) وَقَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَعْظَمَ مِنْ الْجِهَادِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالذَّبُّ عَنْ الْمِلَّةِ، وَالْغَنَائِمُ تَابِعَةٌ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا فَقَدْ جَرَّدَ قَصْدَهُ لِلْغَرَضِ الْأَعْظَمِ. تَنْبِيهٌ: صُورَةُ الْإِعْرَاضِ: أَنْ يَقُولَ أَسْقَطْتُ حَقِّي مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ قَالَ: وَهَبْتُ نَصِيبِي فِيهَا لِلْغَانِمِينَ وَقَصَدَ الْإِسْقَاطَ فَكَذَلِكَ، أَوْ تَمْلِيكَهُمْ فَلَا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُفْلِسُ كَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ بِمَحْضِ جِهَادِهِ لِلْآخِرَةِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ التَّمَلُّكِ كَابْتِدَاءِ الِاكْتِسَابِ، وَالْمُفْلِسُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَخَرَجَ بِالْحُرِّ الَّذِي قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ الْعَبْدُ، فَالْإِعْرَاضُ إنَّمَا هُوَ لِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ. نَعَمْ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ الدُّيُونُ قَالَ: الْأَذْرَعِيُّ: فَلَا يَظْهَرُ صِحَّةُ إعْرَاضِهِ فِي حَقِّهِمَا. قَالَ: شَيْخُنَا: وَفِي الثَّانِي نَظَرٌ، وَبِالرَّشِيدِ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، فَلَا يَصِحُّ إعْرَاضُهُمَا عَنْ الرَّضْخِ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُمَا مُلْغَاةٌ، وَلَا إعْرَاضُ وَلِيِّهِمَا لِعَدَمِ الْحَظِّ فِي إعْرَاضِهِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ قَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ صَحَّ إعْرَاضُهُ. تَنْبِيهٌ: التَّقْيِيدُ بِالرُّشْدِ مِنْ زِيَادَتِهِ عَلَى الْمُحَرَّرِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إعْرَاضُ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. وَقَالَ: الْإِمَامُ: إنَّهُ الظَّاهِرُ، وَاقْتَصَرَ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ عَلَى نَقْلِهِ عَنْهُ وَأَقَرَّاهُ، وَقَالَا: لَوْ فُكَّ حَجْرُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ صَحَّ إعْرَاضُهُ. قَالَ: الْبُلْقِينِيُّ: وَهَذَا إنَّمَا فَرَّعَهُ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِنَامِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْبَسِيطِ، فَقَالَ: وَالسَّفِيهُ يَلْزَمُ حَقُّهُ عَلَى قَوْلِنَا يَمْلِكُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ إلَّا عَلَى قَوْلِنَا: إنَّهُ لَا يَمْلِكُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا بِاخْتِيَارٍ، فَيَكُونُ الْأَصَحُّ صِحَّةُ إعْرَاضِهِ، وَكَذَا قَالُوا: لَا يَجِبُ مَالٌ فِيمَا إذَا عَفَا السَّفِيهُ عَنْ الْقِصَاصِ وَأَطْلَقَ، وَفَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْقَوَدُ عَيْنًا مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ جَلْبُ الْمَالِ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، وَقَدْ سَوَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ هُنَاكَ، فَيَنْبَغِي التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا هُنَا. وَقَالَ: فِي الْمُهِمَّاتِ: الرَّاجِحُ صِحَّةُ إعْرَاضِهِ. وَقَالَ: الْأَذْرَعِيُّ: إنَّهُ مُقْتَضَى إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ. قَالَ: ابْنُ شُهْبَةَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ إعْرَاضُهُ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَمْلِكُ إلَّا بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ اخْتِيَارُ تَمَلُّكِ حَقٍّ مَالِيٍّ، وَلَا يَجُوزُ لِلسَّفِيهِ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ: كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالسِّرْجِينِ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَهُوَ مَحْضُ عُقُوبَةٍ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي، فَلِهَذَا مَلَكَ الْعَفْوَ عَنْهُ. ا هـ. وَهَذَا يُقَوِّي كَلَامَ الشَّيْخَيْنِ، وَفِي قِيَاسِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ حَاصِلٌ يُرِيدُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَقِيسِ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَمَّا بَعْدَهَا لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، وَ لَوْ قَالَ: قَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَبْلَ الْقِسْمَةِ اخْتَرْتُ الْغَنِيمَةَ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْإِعْرَاضِ فِي الْأَصَحِّ، وَلِهَذَا قَدَّرْتُ فِي كَلَامِهِ وَقَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ (وَالْأَصَحُّ) الْمَنْصُوصُ (جَوَازُهُ) أَيْ إعْرَاضِ الْحُرِّ الرَّشِيدِ (بَعْدَ فَرْزِ الْخُمْسِ) وَقَبْلَ قِسْمَةِ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ إفْرَازَ الْخُمْسِ لَا يَتَعَيَّنُ بِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ، كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي مَنْعُهُ لِتَمَيُّزِ حَقِّ الْغَانِمِينَ (وَ) الْأَصَحُّ (جَوَازُهُ) أَيْ الْإِعْرَاضِ (لِجَمِيعِهِمْ) أَيْ الْغَانِمِينَ، وَيُصْرَفُ حَقُّهُمْ مَصْرِفَ الْخُمْسِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُصَحِّحَ لِلْإِعْرَاضِ يَشْمَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمِيعَ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ مَصَارِفَ الْخُمْسِ غَيْرُ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ (وَ) الْأَصَحُّ (بُطْلَانُهُ) أَيْ الْإِعْرَاضِ (مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى) الْمَذْكُورِينَ فِي بَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ فَيَتَنَاوَلُ إعْرَاضَ بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمَهُمْ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ، بَلْ هُوَ مِنْحَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَشْبَهَ الْإِرْثَ (وَ) مِنْ (سَالَبَ) وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ سَلَبَ مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ مُتَعَيَّنٌ لَهُ كَالْمُتَعَيَّنِ بِالْقِسْمَةِ، وَالثَّانِي صِحَّتُهُ مِنْهُمَا كَالْغَانِمِينَ. تَنْبِيهٌ: إنَّمَا خَصَّ ذَوِي الْقُرْبَى بِالذِّكْرِ دُونَ بَقِيَّة أَهْلِ الْخُمْسِ كَالْيَتَامَى؛ لِأَنَّهَا جِهَاتٌ عَامَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا إعْرَاضُ كَالْفُقَرَاءِ.
المتن: وَالْمُعْرِضُ كَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ، وَمَنْ مَاتَ فَحَقُّهُ لِوَارِثِهِ، وَلَا تُمْلَكُ إلَّا بِقِسْمَةٍ.
الشَّرْحُ: (وَالْمُعْرِضُ) مِنْ الْغَانِمِينَ عَنْ حَقِّهِ حُكْمُهُ (كَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ) فَيَضُمُّ نَصِيبَهُ إلَى الْمَغْنَمِ وَيُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُرْتَزَقَةِ وَأَهْلِ الْخُمْسِ، وَقِيلَ يَضُمُّ إلَى الْخُمْسِ خَاصَّةً (وَمَنْ) لَمْ يُعْرِضْ عَنْ الْغَنِيمَةِ، وَ (مَاتَ فَحَقُّهُ لِوَارِثِهِ) كَسَائِرِ الْحُقُوقِ فَيَطْلُبُهُ أَوْ يُعْرِضُ عَنْهُ (وَلَا تُمْلَكُ) الْغَنِيمَةُ (إلَّا بِقِسْمَةٍ)؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ كَالِاصْطِيَادِ، وَالتَّحَطُّبِ لَمْ يَصِحَّ إعْرَاضُهُمْ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ كُلَّ طَائِفَةٍ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ، وَلَوْ مَلَكُوا لَمْ يَصِحَّ إبْطَالُ حَقِّهِمْ مِنْ نَوْعٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ. تَنْبِيهٌ: أَفْهَمَ كَلَامُهُ حَصْرَ مِلْكِهَا فِي الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ تُمْلَكُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا اخْتِيَارُ التَّمَلُّكِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا. وَإِمَّا بِالْقِسْمَةِ بِشَرْطِ الرِّضَا بِهَا، وَلِذَا قَالَ: فِي الرَّوْضَةِ. وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْقِسْمَةُ لِتَضَمُّنِهَا اخْتِيَارَ التَّمَلُّكِ. ا هـ. وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا مَلَكُوا أَنْ يَتَمَلَّكُوا كَحَقِّ الشُّفْعَةِ كَمَا قَالَ.
المتن: وَلَهُمْ التَّمَلُّكُ، وَقِيلَ يَمْلِكُونَ، وَقِيلَ إنْ سَلِمَتْ إلَى الْقِسْمَةِ بَانَ مِلْكُهُمْ، وَإِلَّا فَلَا، وَيُمْلَكُ الْعَقَارُ بِالِاسْتِيلَاءِ كَالْمَنْقُولِ.
الشَّرْحُ: (وَلَهُمْ) أَيْ الْغَانِمِينَ بَيْنَ الْحِيَازَةِ وَالْقِسْمَةِ (التَّمَلُّكُ) قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ ثَبَتَ لَهُمْ (وَقِيلَ يَمْلِكُونَ) الْغَنِيمَةَ بَعْدَ الْحِيَازَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِلْكًا ضَعِيفًا يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ (وَقِيلَ) الْمِلْكُ فِي الْغَنِيمَةِ مَوْقُوفٌ (إنْ سَلِمَتْ إلَى الْقِسْمَةِ بَانَ مِلْكُهُمْ) أَيْ الْغَانِمِينَ لَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ (وَإِلَّا) بِأَنْ تَلِفَتْ، أَوْ أَعْرَضُوا عَنْهَا (فَلَا) يَمْلِكُونَهَا (وَيُمْلَكُ الْعَقَارُ بِالِاسْتِيلَاءِ) عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الْآيَةَ، وَزَادَ عَلَى الْمُحَرَّرِ قَوْلَهُ (كَالْمَنْقُولِ) لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْعَقَارِ بِالِاسْتِيلَاءِ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ كَمَا أَنَّهُ فِي الْمَنْقُولِ كَذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ: وَيُمْلَكُ الْعَقَارُ بِمَا يُمْلَكُ بِهِ الْمَنْقُولُ كَانَ أَوْضَحَ، وَخَرَجَ بِالْعَقَارِ مَوَاتُهُمْ فَلَا يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ إذْ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْإِحْيَاءِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ.
المتن: وَلَوْ كَانَ فِيهَا كَلْبٌ أَوْ كِلَابٌ تَنْفَعُ وَأَرَادَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُنَازَعْ أُعْطِيَهُ، وَإِلَّا قُسِّمَتْ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا أُقْرِعَ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ كَانَ فِيهَا) أَيْ الْغَنِيمَةِ (كَلْبٌ أَوْ كِلَابٌ تَنْفَعُ) لِصَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (وَأَرَادَهُ بَعْضُهُمْ) أَيْ الْغَانِمِينَ مِنْ أَهْلِ خُمْسٍ أَوْ جِهَادٍ (وَلَمْ يُنَازَعْ) فِيهِ بِفَتْحِ الزَّايِ بِخَطِّهِ (أُعْطِيَهُ) إذْ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ (وَإِلَّا) بِأَنْ نَازَعَهُ غَيْرُهُ (قُسِّمَتْ) تِلْكَ الْكِلَابُ عَدَدًا (إنْ أَمْكَنَ) قِسْمَتُهَا (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ (أُقْرِعَ) بَيْنَهُمْ فِيهَا دَفْعًا لِلنِّزَاعِ. أَمَّا مَا لَا تَنْفَعُ فَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا.
المتن: وَالصَّحِيحُ أَنْ سَوَادَ الْعِرَاقِ فُتِحَ عَنْوَةً وَقُسِّمَ ثُمَّ بَذَلُوهُ وَوُقِفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَاجُهُ أُجْرَةٌ تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
الشَّرْحُ: (وَالصَّحِيحُ) الْمَنْصُوصُ (أَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ) مِنْ الْبِلَادِ وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الْجِنْسِ إلَى بَعْضِهِ؛ لِأَنَّ السَّوَادَ أَزْيَدُ مِنْ الْعِرَاقِ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ فَرْسَخًا كَمَا قَالَهُ: الْمَاوَرْدِيُّ: وَسُمِّيَ سَوَادًا لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ الْبَادِيَةِ فَرَأَوْا خُضْرَةَ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ الْمُلْتَفَّةِ، وَالْخُضْرَةُ تُرَى مِنْ الْبُعْدِ سَوَادًا. فَقَالُوا مَا هَذَا السَّوَادُ، وَلِأَنَّ بَيْنَ اللَّوْنَيْنِ تَقَارُبًا فَيُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرَ (فُتِحَ) فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (عَنْوَةً) بِفَتْحِ الْعِينِ: أَيْ قَهْرًا وَغَلَبَةً (وَقُسِّمَ) بَيْنَ الْغَانِمِينَ (ثُمَّ) بَعْدَ قِسْمَتِهِ وَاخْتِيَارِ تَمَلُّكِهِ (بَذَلُوهُ) بِمُعْجَمَةٍ: أَيْ أَعْطَوْهُ لِعُمَرَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ (وَوُقِفَ) بَعْدَ اسْتِرْدَادِهِ دُونَ أَبْنِيَتِهِ الْآتِي فِي الْمَتْنِ حُكْمُهَا (عَلَى الْمُسْلِمِينَ)؛ لِأَنَّهُ خَافَ تَعَطُّلَ الْجِهَادِ بِاشْتِغَالِهِمْ بِعِمَارَتِهِ لَوْ تَرَكَهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْسِنْ قَطْعَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَنْ رَقَبَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ وَأَجَرَهُ مِنْ أَهْلِهِ إجَارَةً مُؤَبَّدَةً بِالْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ سَائِرِ الْإِجَارَاتِ وَجُوِّزَتْ كَذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ. قَالَ: الْعُلَمَاءُ: لِأَنَّهُ بِالِاسْتِرْدَادِ رَجَعَ إلَى حُكْمِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ بِالْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ فِي أَمْوَالِهِمْ مَا لَا يَجُوزُ فِي أَمْوَالِنَا كَمَا يَأْتِي مِثْلُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْبَرَاءَةِ، وَالرَّجْعَةِ وَغَيْرِهِمَا. تَنْبِيهٌ: مَعْلُومٌ أَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ يُمْكِنُ بَذْلُهُ كَالْغَانِمِينَ وَذَوِي الْقُرْبَى إنْ انْحَصَرُوا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ أَهْلِ الْخُمْسِ فَلَا يَحْتَاجُ الْإِمَامُ فِي وَقْفِ حَقِّهِمْ إلَى بَذْلٍ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِأَهْلِهِ (وَخَرَاجُهُ) الْمَضْرُوبُ عَلَيْهِ (أُجْرَةٌ) مُنَجَّمَةٌ (تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ) الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ السَّوَادِ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَهِبَتُهُ لِكَوْنِهِ صَارَ وَقْفًا، وَلَهُمْ إجَارَتُهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً لَا مُؤَبَّدَةً كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِي إجَارَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ كَمَا مَرَّ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ سَاكِنِهِ إزْعَاجُهُمْ عَنْهُ وَيَقُولُ: أَنَا أَسْتَغِلُّهُ وَأُعْطِي الْخَرَاجَ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا بِالْإِرْثِ الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدِ بَعْضِ آبَائِهِمْ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ لَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ. تَنْبِيهٌ: كَانَ قَدْرُ الْخَرَاجِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا فَرَضَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ لَمَّا بَعَثَهُ عُمَرُ مَاسِحًا، وَهُوَ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ شَعِيرٍ دِرْهَمَانِ، وَجَرِيبِ حِنْطَةٍ أَرْبَعَةٌ، وَجَرِيبِ شَجَرٍ وَقَصَبِ سُكَّرٍ سِتَّةٌ، وَجَرِيبِ نَخْلٍ ثَمَانِيَةٌ، وَجَرِيبِ كَرْمٍ عَشْرَةٌ وَجَرِيبِ زَيْتُونٍ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَالْجَرِيبُ عَشْرُ قَصَبَاتٍ، كُلُّ قَصَبَةٍ سِتَّةُ أَذْرُعٍ بِالْهَاشِمِيِّ، كُلُّ ذِرَاعٍ سِتُّ قَبَضَاتُ، كُلُّ قَبْضَةٍ أَرْبَعُ أَصَابِعَ، فَالْجَرِيبُ مَسَّاحَةٌ مُرَبِّعَةٌ، بَيْنَ كُلِّ جَانِبَيْنِ مِنْهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا هَاشِمِيًّا. وَقَالَ: فِي الْأَنْوَارِ: الْجَرِيبُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ. قَالَ: الرَّافِعِيُّ: وَكَانَ مَبْلَغُ ارْتِفَاعُ خَرَاجِ السَّوَادِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَسِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَنَاقَصَ إلَى أَنْ بَلَغَ فِي أَيَّامِ الْحَجَّاجِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ لِظُلْمِهِ وَغَشَمِه فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ارْتَفَعَ بِعَدْلِهِ وَعِمَارَتِهِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى إلَى ثَلَاثِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إلَى سِتِّينَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ: إنْ عِشْتُ لَأَزِيدَنَّهُ إلَى مَا كَانَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَمَاتَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.
المتن: وَهُوَ مِنْ عَبَّادَانَ إلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ طُولًا، وَمِنْ الْقَادِسِيَّةِ إلَى حُلْوَانَ عَرْضًا قُلْتُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْبَصْرَةَ وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي حَدِّ السَّوَادِ فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُهُ إلَّا فِي مَوْضِعِ غَرْبِيِّ دِجْلَتِهَا وَمَوْضِعِ شَرْقِيِّهَا.
الشَّرْحُ: (وَهُوَ) أَيْ سَوَادُ الْعِرَاقِ بِاتِّفَاقِ مُصَنِّفِي الْفُتُوحِ وَالتَّارِيخِ زَمَنَ عُرِفَ أَسْمَاءُ الْبُلْدَانِ (مِنْ) أَوَّلِ (عَبَّادَانَ) بِمُوَحَّدَةِ مُشَدَّدَةٍ: مَكَانٌ قُرْبَ الْبَصْرَةِ (إلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَمِيمٍ مَفْتُوحَتَيْنِ (طُولًا) وَقُيِّدَتْ الْحَدِيثَةُ بِالْمَوْصِلِ لِإِخْرَاجِ حَدِيثَةِ أُخْرَى عِنْدَ بَغْدَادَ، سُمِّيَتْ الْمَوْصِلَ؛ لِأَنَّ نُوحًا وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ لَمَّا نَزَلُوا عَلَى الْجُودِيِّ أَرَادُوا أَنْ يَعْرِفُوا قَدْرَ الْمَاءِ الْمُتَبَقَّى عَلَى الْأَرْضِ فَأَخَذُوا حَبْلًا وَجَعَلُوا فِيهِ حَجَرًا ثُمَّ دَلَّوْهُ فِي الْمَاءِ فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغُوا مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْحَجَرُ سُمِّيَتْ الْمَوْصِلَ. ثُمَّ أَخَذَ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِ عَرْضِ السَّوَادِ بِقَوْلِهِ (وَمِنْ) أَوَّلِ (الْقَادِسِيَّةِ) اسْمُ مَكَان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُوفَةِ نَحْوَ مَرْحَلَتَيْنِ، وَبَيْنَ بَغْدَادَ نَحْوَ خَمْسِ مَرَاحِلَ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْمًا مِنْ قَادِسَ نَزَلُوهَا (إلَى) آخِرَ (حُلْوَانَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ (عَرْضًا) هَذَا مَا فِي الْمُحَرَّرِ. وَقَالَ: فِي الشَّرْحِ: فِيهِ تَسَاهُلٌ؛ لِأَنَّ الْبَصْرَةَ كَانَتْ سَبِخَةً أَحْيَاهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بَعْدَ فَتْحِ الْعِرَاقِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْحَدِّ الْمَذْكُورِ فَلِذَلِكَ اسْتَدْرَكَ الْمُصَنِّفُ عَلَى إطْلَاقِ الْمُحَرَّرِ بِقَوْلِهِ (قُلْتُ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ (الصَّحِيحُ أَنَّ الْبَصْرَةَ) بِتَثْلِيثِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْفَتْحِ أَفْصَحُ: مَدِينَةٌ بَنَاهَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ زَمَنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَلَمْ يُعْبَدْ بِهَا صَنَمٌ قَطُّ، وَيُقَالُ لَهَا قُبَّةُ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَقْوَمُ الْبِلَادِ قِبْلَةً، وَهِيَ (وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي حَدِّ السَّوَادِ) الْمُضَافِ إلَى الْعِرَاقِ (فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ غَرْبِيِّ دِجْلَتِهَا) بِكَسْرِ الدَّالِ: نَهْرٌ مَشْهُورٌ بِالْعِرَاقِ (وَ) إلَّا (فِي مَوْضِعِ شَرْقِيِّهَا) يُسَمَّى الْفُرَاتَ، وَمَا سِوَاهُمَا مِنْهَا فَمَوَاتٌ أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ.
المتن: وَأَنَّ مَا فِي السَّوَادِ مِنْ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: مَا فِي أَرْضِ سَوَادِ الْعِرَاقِ مِنْ الْأَشْجَارِ ثِمَارُهَا لِلْمُسْلِمِينَ يَبِيعُهَا الْإِمَامُ، وَيَصْرِفُ أَثْمَانَهَا أَوْ يَصْرِفُهَا نَفْسَهَا مَصَارِفَ الْخَرَاجِ، وَهُوَ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا مَرَّ (وَ) الصَّحِيحُ (أَنَّ مَا فِي السَّوَادِ مِنْ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) إذْ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَلِهَذَا لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ، وَلِأَنَّ وَقْفَهَا يُفْضِي إلَى خَرَابِهَا. نَعَمْ إنْ كَانَتْ آلَتُهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا كَمَا قَالَهُ: الْأَذْرَعِيُّ تَفَقُّهًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ النَّصِّ، وَقَطَعَ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الدُّورِ حَالَ الْفَتْحِ وَقْفٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ كَالْمَزَارِعِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْيَوْمَ أَنْ يَقِفَ أَرْضَ الْغَنِيمَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوْ عَقَارَاتِهَا أَوْ مَنْقُولَاتِهَا جَازَ إنْ رَضِيَ الْغَانِمُونَ بِذَلِكَ كَنَظِيرِهِ فِيمَا مَرَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، لَا قَهْرًا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ خَشِيَ أَنَّهَا تَشْغَلُهُمْ عَنْ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُمْ، لَكِنْ يَقْهَرُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَلَا يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ إلَى الْكُفَّارِ إلَّا بِرِضَا الْغَانِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا أَنْ يَتَمَلَّكُوهَا.
المتن: وَفُتِحَتْ مَكَّةُ صُلْحًا، فَدُورُهَا وَأَرْضُهَا الْمُحْيَاةُ مِلْكٌ يُبَاعُ.
الشَّرْحُ: (وَفُتِحَتْ مَكَّةُ صُلْحًا) لَا عَنْوَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الْأَدْبَارَ} الْآيَةَ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، وقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} وقَوْله تَعَالَى: {وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} أَيْ بِالْقَهْرِ: قِيلَ الَّتِي عَجَّلَهَا لَهُمْ غَنَائِمُ حُنَيْنٍ، وَاَلَّتِي لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا غَنَائِمُ مَكَّةَ، وَمَنْ قَالَ: فُتِحَتْ عَنْوَةً، مَعْنَاهُ أَنَّهُ دَخَلَ مُسْتَعِدًّا لِلْقِتَالِ لَوْ قُوتِلَ. قَالَهُ الْغَزَالِيُّ: (فَدُورُهَا وَأَرْضُهَا الْمُحْيَاةُ مِلْكٌ يُبَاعُ) إذْ لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَهَا، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَمَّا قَالَ: لَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْزِلُ غَدًا بِدَارِك بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟} وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ وَطَالِبٌ دُونَ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَا يُورَثُ إلَّا مَا كَانَ الْمَيِّتُ مَالِكًا لَهُ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ بَيْعِهَا. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَيُكْرَهُ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَنَازَعَهُ الْمُصَنِّفِ فِي مَجْمُوعِهِ، وَقَالَ: إنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٍ، وَالْأَوَّلُ كَمَا قَالَ: الزَّرْكَشِيُّ: هُوَ الْمَنْصُوصُ، بَلْ اعْتَرَضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِكَرَاهَةِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ وَالشِّطْرَنْجِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِمَا نَهْيٌ مَقْصُودٌ. تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي بَيْعِ نَفْسِ الْأَرْضِ. أَمَّا الْبِنَاءُ فَهُوَ مَمْلُوكٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَا خِلَافٍ: أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَجْزَاءِ أَرْضِهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ فِي بِنَاءِ السَّوَادِ، وَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِالْفَاءِ يَقْتَضِي تَرَتُّبَ كَوْنِهَا مِلْكًا عَلَى الصُّلْحِ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ مُقْتَضَى الصُّلْحِ أَنَّهَا وَقْفٌ؛ لِأَنَّهَا فَيْءٌ وَهُوَ وَقْفٌ: إمَّا بِنَفْسِ حُصُولِهِ وَإِمَّا بِإِيقَافِهِ وَمُقْتَضَى تَعْبِيرِهِ أَنَّهَا عَلَى الْعَنْوَةِ لِلِاتِّبَاعِ، وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَفْتُوحَ عَنْوَةً غَنِيمَةٌ مُخَمَّسَةٌ، بَلْ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَقَرَّ الدُّورَ بِيَدِ أَهْلِهَا عَلَى الْمِلْكِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ " وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً. تَتِمَّةٌ: الصَّحِيحُ أَنَّ مِصْرَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَضَعَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ الْخَرَاجَ، وَفِي وَصِيَّةِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، وَكَانَ اللَّيْثُ يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا: وَقِيلَ فُتِحَتْ صُلْحًا. ثُمَّ نَكَثُوا فَفَتَحَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ثَانِيًا عَنْوَةً، وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْخِلَافِ عَلَى هَذَا، فَمَنْ قَالَ: فُتِحَتْ صُلْحًا نَظَرَ لِأَوَّلِ الْأَمْرِ، وَمَنْ قَالَ عَنْوَةً نَظَرَ لِآخَرِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا الشَّامُ فَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الرُّويَانِيِّ: أَنَّ مُدُنَهَا فُتِحَتْ صُلْحًا وَأَرْضَهَا عَنْوَةً، وَلَكِنْ رَجَّحَ السُّبْكِيُّ أَنَّ دِمَشْقَ فُتِحَتْ عَنْوَةً.
المتن: يَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ أَمَانُ حَرْبِيٍّ وَعَدَدٍ مَحْصُورٍ فَقَطْ.
الشَّرْحُ: [ فَصْلٌ ] فِي الْأَمَانِ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا تَرْكُ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ، هُوَ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ وَمَصَالِحِهِ، وَالْعُقُودُ الَّتِي تُفِيدُهُمْ الْأَمْنَ ثَلَاثَةٌ: أَمَانٌ وَجِزْيَةٌ وَهُدْنَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَعَلَّقَ بِمَحْصُورٍ فَالْأَمَانُ، أَوْ بِغَيْرِ مَحْصُورٍ، فَإِنْ كَانَ إلَى غَايَةٍ فَالْهُدْنَةُ وَإِلَّا فَالْجِزْيَةُ، وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِالْإِمَامِ بِخِلَافِ الْأَمَانِ وَالْأَصْلُ فِي الْأَمَانِ آيَةُ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَخَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ {ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا - أَيْ نَقَضَ عَهْدَهُ - فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ وَالْحُرْمَةُ وَالْحَقُّ، وَأَمَّا الذِّمَّةُ فِي قَوْلِهِمْ ثَبَتَ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فَلَهَا مَعْنَى آخَرَ مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْبَيْعِ. (يَصِحُّ) وَلَا يَجِبُ (مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ) وَلَوْ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ امْرَأَةً (أَمَانُ حَرْبِيٍّ) وَاحِدٍ غَيْرِ أَسِيرٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا، فِي حَالِ الْقِتَالِ أَمْ لَا، عَيَّنَ الْإِمَامُ قَتْلَهُ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ أَمْ لَا (وَعَدَدٍ مَحْصُورٍ) مِنْهُمْ كَأَهْلِ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ (فَقَطْ) فَخَرَجَ بِالْمُسْلِمِ الْكَافِرُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَ لَيْسَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ لَنَا، وَبِالْمُكَلَّفِ غَيْرُهُ لِإِلْغَاءِ عِبَارَتِهِ، وَيَلْحَقُ بِالْمُكَلَّفِ السَّكْرَانُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُصَنِّفِ، وَبِالْمُخْتَارِ الْمُكْرَهُ، وَبِالْمَحْصُورِ غَيْرُهُمْ كَأَهْلِ بَلَدٍ أَوْ نَاحِيَةٍ، فَلَا يُؤَمِّنُهُمْ الْآحَادُ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ الْجِهَادُ فِيهَا بِأَمَانِهِمْ. قَالَ: الْإِمَامُ: وَلَوْ أَمَّنَ مِائَةُ أَلْفٍ مِنَّا مِائَةَ أَلْفٍ مِنْهُمْ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لَمْ يُؤَمِّنْ إلَّا وَاحِدًا، لَكِنْ إنْ ظَهَرَ انْسِدَادٌ وَانْتِقَاضٌ فَأَمَانُ الْجَمِيعِ مَرْدُودٌ. قَالَ: الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ إنْ أَمَّنُوهُمْ دُفْعَةً. فَإِنْ وَقَعَ مُرَتَّبًا فَيَنْبَغِي صِحَّةُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ إلَى ظُهُورِ الْخَلَلِ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ: وَقَالَ: إنَّهُ مُرَادُ الْإِمَامِ.
المتن: وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ أَسِيرٍ لِمَنْ هُوَ مَعَهُمْ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ أَسِيرٍ لِمَنْ هُوَ مَعَهُمْ) أَوْ غَيْرِهِمْ (فِي الْأَصَحِّ) وَالثَّانِي يَصِحُّ لِدُخُولِهِ فِي الضَّابِطِ. تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي الْأَسِيرِ الْمُقَيَّدِ وَالْمَحْبُوسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا؛ لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ بِأَيْدِيهِمْ لَا يَعْرِفُ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْأَمَانِ أَنْ يُؤَمِّنَ الْمُؤَمَّنُ. وَلَيْسَ الْأَسِيرُ آمِنًا. أَمَّا أَسِيرُ الدَّارِ وَهُوَ الْمُطْلَقُ بِدَارِ الْكُفْرِ الْمَمْنُوعِ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْهَا فَيَصِحُّ أَمَانُهُ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ قَالَ: الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّمَا يَكُونُ مُؤَمِّنُهُ آمِنًا بِدَارِ الْحَرْبِ لَا غَيْرَ إلَّا أَنْ يُصَرَّحَ بِالْأَمَانِ فِي غَيْرِهَا، وَبِغَيْرِ الْأَسِيرِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ ثَبَتَ فِيهِ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ: بِغَيْرِ الَّذِي أَسَرَهُ. أَمَّا الَّذِي أَسَرَهُ فَإِنَّهُ يُؤَمِّنُهُ إذَا كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ لَمْ يَقْبِضْهُ الْإِمَامُ كَمَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَفِي عَقْدِ الْأَمَانِ لِلْمَرْأَةِ اسْتِقْلَالًا وَجْهَانِ: أَرْجَحُهُمَا كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ الْجَوَازُ.
المتن: وَيَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفِيدُ مَقْصُودُهُ، وَبِكِتَابَةٍ وَرِسَالَةٍ.
الشَّرْحُ: (وَيَصِحُّ) إيجَابُ الْأَمَانِ (بِكُلِّ لَفْظٍ يُفِيدُ مَقْصُودُهُ) صَرِيحًا كَأَجَّرْتُك وَأَمَّنْتُك أَوْ لَا تَفْزَعْ كَأَنْتِ عَلَى مَا تُحِبُّ، أَوْ كُنْ كَيْفَ شِئْتَ (وَ) يَصِحُّ (بِكِتَابَةٍ) بِالْفَوْقِيَّةِ لِأَثَرٍ فِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ، أَوْ لَا تَخَفْ، أَوْ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، أَوْ أَنْتَ آمِنٌ، أَوْ فِي أَمَانِي، أَوْ أَنْتَ مُجَارٌ، وَلَا فَرْقَ فِي اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ كَمَا مَرَّ وَبَيْنَ الْعَجَمِيِّ كَمَتْرَسٍ: أَيْ لَا تَخَفْ، أَوْ كِنَايَةٍ مَعَ النِّيَّةِ (وَرِسَالَةٍ)؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْ الْكِتَابَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّسُولُ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي حَقْنِ الدَّمِ، وَمُقْتَضَى هَذَا جَوَازُ الرَّسُولِ صَبِيًّا، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَكْلِيفِهِ كَالْمُؤَمَّنِ. تَنْبِيهٌ: يَصِحُّ إيجَابُ الْأَمَانِ بِالتَّعْلِيقِ بِالْغَرَرِ كَقَوْلِهِ: إنْ جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ أَمَّنْتُكَ، لِمَا مَرَّ أَنَّ بِنَاءَ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَبِإِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ وَلَوْ مِنْ نَاطِقٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْقَبُولِ، فَلَوْ أَشَارَ مُسْلِمٌ لِكَافِرٍ فَظَنَّ أَنَّهُ أَمَّنَهُ فَجَاءَنَا فَأَنْكَرَ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَمَّنَهُ بِهَا بَلَّغْنَاهُ مَأْمَنَهُ وَلَا نَغْتَالُهُ لِعُذْرِهِ. فَإِنْ مَاتَ الْمُشِيرُ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ الْحَالَ فَلَا أَمَانَ وَلَا اغْتِيَالَ فَيُبَلَّغُ الْمَأْمَنَ، وَمَنْ دَخَلَ رَسُولًا أَوْ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ فَهُوَ آمِنٌ لَا لِتِجَارَةٍ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ أَنَّ الدُّخُولَ لِلتِّجَارَةِ أَمَانٌ، فَإِنْ صَدَّقَهُ بُلِّغَ الْمَأْمَنَ وَإِلَّا اُغْتِيلَ، وَلِلْإِمَامِ لَا لِلْآحَادِ جَعْلُهَا أَمَانًا إنْ رَأَى فِي الدُّخُولِ لَهَا مَصْلَحَةً، وَلَا تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ طَلَبَ الْأَمَانَ إلَّا إذَا طَلَبَهُ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَجِبُ قَطْعًا، وَلَا يُمْهَلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، بَلْ قَدْرَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْبَيَانُ.
المتن: وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ الْكَافِرِ بِالْأَمَانِ.
الشَّرْحُ: (وَيُشْتَرَطُ) لِصِحَّةِ الْأَمَانِ (عِلْمُ الْكَافِرِ بِالْأَمَانِ) كَسَائِرِ الْعُقُودِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا أَمَانَ لَهُ كَمَا قَالَاهُ، وَإِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ: فَتَجُوزُ الْمُبَادَرَةُ إلَى قَتْلِهِ وَلَوْ مِنْ الْمُؤَمِّنِ.
المتن: فَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، وَكَذَا إنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (فَإِنْ) عَلِمَ الْكَافِرُ بِأَمَانِهِ وَ (رَدَّهُ بَطَلَ) جَزْمًا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ كَالْهِبَةِ (وَكَذَا) يَبْطُلُ (إنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي الْأَصَحِّ) كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ، وَالثَّانِي يَكْفِي السُّكُوتُ لِبِنَاءِ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ كَمَا مَرَّ. تَنْبِيهٌ: تَعْبِيرُهُ بِالْأَصَحِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ وَجْهَيْنِ وَلَيْسَ مُرَادًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ، وَالتَّرْجِيحُ بَحْثٌ لَهُ، وَالْمَنْقُولُ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ الِاكْتِفَاءُ بِالسُّكُوتِ. قَالَ: الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ قَضِيَّةُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْقَبُولَ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلْفُ، وَلِمَا مَرَّ مِنْ بِنَاءِ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ مَعَ السُّكُوتِ مَا يُشْعِرُ بِالْقَبُولِ. وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ الْقِتَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ.
المتن: وَتَكْفِي إشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ لِلْقَبُولِ.
الشَّرْحُ: (وَتَكْفِي) وَلَوْ مِنْ نَاطِقٍ (إشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ لِلْقَبُولِ) لَكِنْ يُعْتَبَرُ فِي كَوْنِهَا كِنَايَةً مِنْ الْأَخْرَسِ أَنْ يَخْتَصَّ بِفَهْمِهَا فَطِنُونَ. فَإِنْ فَهِمَهَا كُلُّ أَحَدٍ فَصَرِيحَةٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ الطَّلَاقِ. تَنْبِيهَانِ أَحَدُهُمَا: قَدْ يُوهِمُ كَلَامُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَكْفِي فِي إيجَابِ الْأَمَانِ وَالْمَذْهَبُ الِاكْتِفَاءِ كَمَا مَرَّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ، حَيْثُ يُعْتَبَرُ الْعَجْزُ عَنْ النُّطْقِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا حَقْنُ الدِّمَاءِ فَكَانَتْ الْإِشَارَةُ شُبْهَةً، وَاحْتَرَزَ بِالْمُفْهِمَةِ عَنْ غَيْرِ الْمُفْهِمَةِ، فَلَا يَصِحُّ بِهَا أَمَانٌ. الثَّانِي أَنَّ مَحِلَّ الْخِلَافِ فِي اعْتِبَارِ الْقَبُولِ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ اسْتِيجَابٌ. فَإِنْ سَبَقَ مِنْهُ لَمْ يُحْتَجْ لِلْقَبُولِ جَزْمًا.
المتن: وَيَجِبُ أَنْ لَا تَزِيدَ مُدَّتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي قَوْلٍ يَجُوزُ مَا لَمْ تَبْلُغْ سَنَةً.
الشَّرْحُ: (وَيَجِبُ أَنْ لَا تَزِيدَ مُدَّتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فِي الْأَظْهَرِ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْهُدْنَةِ. فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا بَطَلَ فِي الزَّائِدِ، وَلَا يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي عَلَى الْأَصَحِّ تَخْرِيجًا عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَلَوْ أَطْلَقَ الْأَمَانَ حُمِلَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَيَبْلُغُ بَعْدَهَا الْمَأْمَنَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَجَحَا فِي الْهُدْنَةِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ قَالَا: حُكْمُ الْأَمَانِ حُكْمُ الْهُدْنَةِ حَيْثُ لَا ضَعْفَ. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى؛ لِأَنَّ بَابَهُ أَوْسَعُ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنْ الْآحَادِ بِخِلَافِهَا (وَفِي قَوْلٍ يَجُوزُ) أَكْثَرُ مِنْهَا (مَا لَمْ تَبْلُغْ) مُدَّتُهُ (سَنَةً) كَالْهُدْنَةِ. أَمَّا السَّنَةُ فَمُمْتَنِعَةٌ قَطْعًا. تَنْبِيهَانِ أَحَدُهُمَا: مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي أَمَانِ الرِّجَالِ. أَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِنَّ إلَى تَقْيِيدِ مُدَّةٍ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْتَأْمَنَةَ إذَا كَانَتْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ لَمْ تُمْنَعْ وَلَا تَتَقَيَّدُ بِمُدَّةٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إنَّمَا هِيَ لِلْمُشْرِكِينَ الرِّجَالِ، وَمُنِعُوا مِنْ السَّنَةِ لِئَلَّا تُتْرَكَ الْجِزْيَةُ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. الثَّانِي سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَيَانِ الْمَكَانِ الَّذِي يَكُونُ الْمُؤَمَّنُ فِيهِ إشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِتَقْيِيدِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ.
المتن: وَلَا يَجُوزُ أَمَانٌ يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ كَجَاسُوسٍ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يَجُوزُ) وَلَا يَصِحُّ (أَمَانٌ يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ كَجَاسُوسٍ) وَطَلِيعَةٍ لِخَبَرِ {لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ} وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ: الْإِمَامُ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ تَبْلِيغَ الْمَأْمَنِ فَيُغْتَالُ؛ لِأَنَّ دُخُولَ مِثْلِهِ خِيَانَةٌ. تَنْبِيهٌ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ شَرْطَ الْأَمَانِ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ دُونَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلْإِمَامِ، وَإِنْ رَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ تَبَعًا لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ بِالْمَصْلَحَةِ. ثُمَّ قَالَ: لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ فِي أَمَانِ الْآحَادِ. أَمَّا أَمَانُ الْإِمَامِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، نَصَّ عَلَيْهِ. ا هـ. وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَلَوْ أَمَّنَ آحَادًا عَلَى مَدَارِجِ الْغُزَاةِ وَعَسُرَ بِسَبَبِهِ سَيْرُ الْعَسْكَرِ وَاحْتَاجُوا إلَى نَقْلِ الزَّادِ رُدَّ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي مَعْنَى الْجَاسُوسِ مَنْ يَحْمِلُ سِلَاحًا إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَنَحْوه مِمَّا يُعِينُهُمْ.
المتن: وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ نَبْذُ الْأَمَانِ إنْ لَمْ يَخَفْ خِيَانَةً.
الشَّرْحُ: (وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ) وَلَا لِغَيْرِهِ (نَبْذُ الْأَمَانِ إنْ لَمْ يَخَفْ خِيَانَةً)؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ خَافَهَا نَبَذَهُ كَالْهُدْنَةِ وَأَوْلَى، جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الْكَافِرِ لِيَنْبُذَهُ مَتَى شَاءَ.
المتن: وَلَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ مَالُهُ وَأَهْلُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَا مَا مَعَ هـ مِنْهُمَا فِي الْأَصَحِّ إلَّا بِشَرْطٍ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ) لِحَرْبِيٍّ بِدَارِنَا (مَالُهُ وَأَهْلُهُ) مِنْ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَجْنُونِ (بِدَارِ الْحَرْبِ) جَزْمًا؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْأَمَانِ تَحْرِيمُ قَتْلِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ وَمُفَادَاتُهُ، لَا أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَيَجُوزُ اغْتِنَامُ أَمْوَالِهِ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِ الْمُخَلَّفِينَ هُنَاكَ (وَكَذَا مَا مَعَهُ مِنْهُمَا) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حِيَازَتِهِ (فِي الْأَصَحِّ إلَّا بِشَرْطٍ) لِقُصُورِ اللَّفْظِ عَنْ الْعُمُومِ، وَالثَّانِي لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْطٍ. تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِمَا مَعَهُ مِنْ مَالِهِ غَيْرُ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مُدَّةَ أَمَانِهِ. أَمَّا الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فَيَدْخُلُ وَلَوْ بِلَا شَرْطٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي حِرْفَتِهِ مِنْ الْآلَاتِ وَمَرْكُوبِهِ إنْ لَمْ يُسْتَغْنَ عَنْهُ، هَذَا إذَا أَمَّنَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ. فَإِنْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ دَخَلَ مَا مَعَهُ بِلَا شَرْطٍ، وَلَا يَدْخُلُ مَا خَلَّفَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ إلَّا بِشَرْطٍ مِنْ الْإِمَامِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْأَمَانُ لِلْحَرْبِيِّ بِدَارِهِمْ، فَقِيَاسُ مَا ذُكِرَ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ بِدَارِهِمْ دَخَلَا وَلَوْ بِلَا شَرْطٍ إنْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ أَمَّنَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَدْخُلْ أَهْلُهُ وَلَا مَا لَا يَحْتَاجُهُ مِنْ مَالِهِ إلَّا بِشَرْطٍ، بِخِلَافِ مَا يَحْتَاجُهُ فَيَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنْ كَانَا بِدَارِنَا دَخَلَا إنْ شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَا غَيْرُهُ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّف يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي مَعَهُ لِغَيْرِهِ لَا يَدْخُلُ قَطْعًا وَلَيْسَ مُرَادًا، فَقَدْ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ. فَائِدَةٌ: لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحْوَالٌ وَهِيَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَمِّنُ الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ، وَالْمُؤَمَّنُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِدَارِنَا جُمْلَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. ثُمَّ مَالُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَوْ لَا، اضْرِبْ اثْنَيْنِ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ. ثُمَّ الَّذِي مَعَهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ أَوْ لَا، اضْرِبْ اثْنَيْنِ فِي ثَمَانِيَةٍ بِسِتَّةَ عَشَرَ. ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ: إمَّا أَنْ يَقَعَ مِنْهُ بِشَرْطٍ أَوْ لَا، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ تُضْرَبُ فِي سِتَّةَ عَشَرَ بِأَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ. ثُمَّ الَّذِي مَعَهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، اضْرِبْ اثْنَيْنِ فِي أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ بِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْتُهُ فَاسْتَفِدْهُ، فَإِنِّي اسْتَخْرَجْته مِنْ فِكْرِي الْفَاتِرِ.
المتن: وَالْمُسْلِمُ بِدَارِ الْحَرْبِ إنْ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْهِجْرَةُ، وَإِلَّا وَجَبَتْ إنْ أَطَاقَهَا، وَلَوْ قَدَرَ أَسِيرٌ عَلَى هَرَبٍ لَزِمَهُ، وَلَوْ أَطْلَقُوهُ بِلَا شَرْطٍ فَلَهُ اغْتِيَالُهُمْ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ حَرُمَ، فَإِنْ تَبِعَهُ قَوْمٌ فَلْيَدْفَعْهُمْ وَلَوْ بِقَتْلِهِمْ، أَوْ شَرَطُوا أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ لَمْ يَجُزْ الْوَفَاءُ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ حُكْمِ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِ. فَقَالَ: (وَالْمُسْلِمُ) الْمُقِيمُ (بِدَارِ الْحَرْبِ إنْ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ) لِكَوْنِهِ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ أَوْ لِأَنَّ لَهُ عَشِيرَةً يَحْمُونَهُ وَلَمْ يَخَفْ فِتْنَةً فِي دِينِهِ (اُسْتُحِبَّ لَهُ الْهِجْرَةُ) إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ أَوْ يَكِيدُوهُ أَوْ يَمِيلَ إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ. تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ اسْتِحْبَابِهَا مَا لَمْ يَرْجِعْ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ هُنَاكَ بِمُقَامِهِ. فَإِنْ رَجَاه فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَالِاعْتِزَالِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ بِهَا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ دَارُ إسْلَامٍ، فَلَوْ هَاجَرَ لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ فَيَحْرُمُ ذَلِكَ، نَعَمْ إنْ رَجَا نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِهِجْرَتِهِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُهَاجِرَ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. ثُمَّ فِي إقَامَتِهِ يُقَاتِلُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيَدْعُوهُمْ إلَيْهِ إنْ قَدَرَ وَإِلَّا فَلَا (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَوْ خَافَ فِتْنَةً فِيهِ (وَجَبَتْ) عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا (إنْ أَطَاقَهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ، وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ {أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ} وَسُمِّيَتْ هِجْرَةً؛ لِأَنَّهُمْ هَجَرُوا دِيَارَهُمْ وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِأَمْنِ الطَّرِيقِ وَلَا بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَيَنْبَغِي أَنَّهُ إنْ خَافَ تَلَفَ نَفْسِهِ مِنْ خَوْفِ الطَّرِيقِ أَوْ مِنْ تَرْكِ الزَّادِ، أَوْ مِنْ عَدَمِ الرَّاحِلَةِ عُدِمَ الْوُجُوبُ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْوُجُوبِ مَنْ فِي إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ إسْلَامَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ قَبْلَ بَدْرٍ، وَكَانَ يَكْتُمُهُ وَيَكْتُبُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخْبَارِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَثِقُونَ بِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْقُدُومَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُقَامَكَ بِمَكَّةَ خَيْرٌ ثُمَّ أَظْهَرَ إسْلَامَهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَيَلْتَحِقُ بِوُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ مَنْ أَظْهَرَ حَقًّا بِبَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إظْهَارِهِ فَتَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ مِنْ تِلْكَ، نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ صَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ فِيهَا، وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ مِثْلَهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ بِبَلَدٍ تُعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاصِي وَلَا يُمْكِنُهُ تَغْيِيرُ ذَلِكَ الْهِجْرَةُ إلَى حَيْثُ تَتَهَيَّأُ لَهُ الْعِبَادَةُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فَإِنْ اسْتَوَتْ جَمِيعُ الْبِلَادُ فِي عَدَمِ إظْهَارِ ذَلِكَ كَمَا فِي زَمَانِنَا فَلَا وُجُوبَ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ لَمْ يُطِقْ الْهِجْرَةَ فَلَا وُجُوبَ حَتَّى يُطِيقَهَا فَإِنْ فُتِحَ الْبَلَدُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْهِجْرَةُ. (وَلَوْ قَدَرَ أَسِيرٌ) فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ (عَلَى هَرَبٍ لَزِمَهُ) لِخُلُوصِهِ بِهِ مِنْ قَهْرِ الْأَسْرِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَمْ لَا كَمَا نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ تَصْحِيحِ الْإِمَامِ وَإِنْ جَزَمَ الْقَمُولِيُّ وَغَيْرُهُ بِتَقْيِيدِهِ بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ (وَلَوْ أَطْلَقُوهُ) مِنْ الْأَسْرِ (بِلَا شَرْطٍ فَلَهُ اغْتِيَالُهُمْ) قَتْلًا وَسَبْيًا وَأَخْذَ مَالٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَأْمِنُوهُ، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ أَنْ يَخْدَعَهُ فَيَذْهَبَ بِهِ إلَى مَوْضِعٍ فَإِذَا صَارَ إلَيْهِ قَتَلَهُ (أَوْ) أَطْلَقُوهُ (عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ) وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّنُوهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ (حَرُمَ) عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، وَكَذَا لَوْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَمَّنُوهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُ، فَلَوْ قَالُوا أَمَّنَّاك وَلَا أَمَانَ لَنَا عَلَيْكَ جَازَ لَهُ اغْتِيَالُهُمْ كَمَا فِي نَصِّ الْأُمِّ (فَإِنْ تَبِعَهُ قَوْمٌ) مِنْهُمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ (فَلْيَدْفَعْهُمْ) وُجُوبًا (وَلَوْ بِقَتْلِهِمْ) كَالصَّائِلِ فَيُرَاعَى التَّرْتِيبُ فِي الصَّائِلِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ بِذَلِكَ (أَوْ) أَطْلَقُوهُ وَ (شَرَطُوا) عَلَيْهِ (أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ) نُظِرَتْ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ (لَمْ يَجُزْ الْوَفَاءُ) بِالشَّرْطِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إنْ أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكُ إقَامَةِ الدِّينِ، وَالْتِزَامُ مَا لَا يَجُوزُ لَا يَلْزَمُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ لَمْ يَحْرُمْ الْوَفَاءُ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ حِينَئِذٍ مُسْتَحَبَّةٌ. تَنْبِيهٌ: لَوْ حَلَّفُوهُ وَلَوْ بِالطَّلَاقِ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِهِ لِعَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَالُوا: لَا نُطْلِقُك حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّكَ لَا تَخْرُجُ فَحَلَفَ، فَأَطْلَقُوهُ فَخَرَجَ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا: كَمَا لَوْ أَخَذَ اللُّصُوصُ رَجُلًا وَقَالُوا لَا نَتْرُكُك حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّكَ لَا تُخْبِرُ بِمَكَانِنَا فَحَلَفَ ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَكَانِهِمْ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ يَمِينُ إكْرَاهٍ وَإِنْ حَلَفَ لَهُمْ تَرْغِيبًا، وَلَوْ قَبْلَ الْإِطْلَاقِ حَنِثَ بِخُرُوجِهِ، وَلَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ أَخْذُ مَالِ مُسْلِمٍ وَجَدَهُ عِنْدَهُمْ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَمَّنَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا يَضْمَنُهُ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الْحَرْبِيِّ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ، بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَخَذَهُ شَخْصٌ مِنْ الْغَاصِبِ لِيَرُدَّهُ إلَى مَالِكِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ فَأُدِيمَ حُكْمُهُ. فُرُوعٌ: لَوْ الْتَزَمَ لَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِ مَالًا فِدَاءً وَهُوَ مُخْتَارٌ، أَوْ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إلَيْهِ، وَسُنَّ لَهُ الْوَفَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي الْتَزَمَهُ لِيَعْتَمِدُوا الشَّرْطَ فِي إطْلَاقِ الْأُسَرَاءِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْمَالُ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِمْ فِدَاءٌ لَا يَمْلِكُونَهُ كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوْ اشْتَرَى مِنْهُمْ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إلَيْهِمْ ثَمَنَهُ أَوْ اقْتَرَضَ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، أَوْ مُكْرَهًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، وَيَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَفْظُ بَيْعٍ بَلْ قَالُوا: خُذْ هَذَا وَابْعَثْ إلَيْنَا كَذَا مِنْ الْمَالِ فَقَالَ: نَعَمْ فَهُوَ كَالشِّرَاءِ مُكْرَهًا، وَلَوْ وَكَّلُوهُ بِبَيْعِ شَيْءٍ لَهُمْ بِدَارِنَا بَاعَهُ وَرَدَّ ثَمَنَهُ إلَيْهِمْ.
المتن: وَلَوْ عَاقَدَ الْإِمَامُ عِلْجًا يَدُلُّ عَلَى قَلْعَةٍ وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ جَازَ فَإِنْ فُتِحَتْ بِدَلَالَتِهِ أُعْطِيَهَا، أَوْ بِغَيْرِهَا فَلَا فِي الْأَصَحِّ، فَإِنْ لَمْ تُفْتَحْ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَقِيلَ إنْ لَمْ يُعَلِّقْ الْجُعْلَ بِالْفَتْحِ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَارِيَةٌ أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا شَيْءَ، أَوْ بَعْدَ الظَّفَرِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَجَبَ بَدَلٌ، أَوْ قَبْلَ ظَفَرٍ فَلَا فِي الْأَظْهَرِ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ بَدَلٍ، وَهُوَ أُجْرَةُ مِثْلٍ، وَقِيلَ قِيمَتُهَا.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ عَاقَدَ الْإِمَامُ) أَوْ نَائِبُهُ (عِلْجًا) وَهُوَ الْكَافِرُ الْغَلِيظُ الشَّدِيدُ، سُمِّيَ بِهِ لِدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِقُوَّتِهِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعِلَاجُ عِلَاجًا لِدَفْعِهِ الدَّاءَ، وَفِي الْحَدِيثِ {الدُّعَاءُ وَالْبَلَاءُ يَتَعَالَجَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أَيْ يَتَصَارَعَانِ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (يَدُلُّ عَلَى قَلْعَةٍ) تُفْتَحُ عَنْوَةً، وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا: الْحِصْنُ، إمَّا لِأَنَّهُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا طَرِيقُهَا، أَوْ لِيَدُلَّنَا عَلَى طَرِيقٍ خَالٍ مِنْ الْكُفَّارِ، أَوْ سَهْلٍ، أَوْ كَثِيرِ الْمَاءِ، أَوْ الْكَلَأِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ جَازَ) ذَلِكَ سَوَاءٌ أَكَانَ ابْتِدَاءُ الشَّرْطِ مِنْ الْعِلْجِ أَمْ مِنْ الْإِمَامِ، وَهِيَ جَعَالَةٌ بِجُعْلٍ مَجْهُولٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ اُحْتُمِلَتْ لِلْحَاجَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُعَيَّنَةً أَوْ مُبْهَمَةً، حُرَّةً أَمْ أَمَةً؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ تَرِقُّ بِالْأَسْرِ وَالْمُبْهَمَةَ يُعَيِّنُهَا الْإِمَامُ وَيُجْبَرُ الْعِلْجُ عَلَى الْقَبُولِ، وَسَوَاءٌ حَصَلَ بِالدَّلَالَةِ كُلْفَةٌ أَمْ لَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْإِمَامُ نَازِلًا تَحْتَ قَلْعَةٍ لَا يَعْرِفُهَا فَقَالَ: مَنْ دَلَّنِي عَلَى قَلْعَةِ كَذَا فَلَهُ جَارِيَةٌ فَقَالَ: الْعِلْجُ هِيَ هَذِهِ اسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا. فَإِنْ قِيلَ: مُقْتَضَى مَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الْجَعَالَةِ عَدَمُ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُمْ شَرَطُوا التَّعَبَ وَلَا تَعَبَ هُنَا. أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا التَّعَبَ هُنَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الْعِلْجُ: الْقَلْعَةُ بِمَكَانِ كَذَا وَلَمْ يَمْشِ وَلَمْ يَتْعَبْ اسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ فَكَذَلِكَ أَيْضًا هُنَا، وَقَدْ اسْتَثْنَوْا مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى كَلِمَةِ (لَا تَتْعَبْ) مَسْأَلَةَ الْعِلْجِ لِلْحَاجَةِ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْمُبْهَمَةِ، وَهُوَ مَا فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَلَعَلَّهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا: مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أُبْهِمَ فِي قِلَاعٍ مَحْصُورَةٍ، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ، بَلْ الْجُمْهُورُ إنَّمَا صَوَّرَهُ بِالْمُعَيَّنَةِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُعَيَّنَةِ يَكْثُرُ فِيهَا الْغَرَرُ، لَكِنْ مَعَ الْحَمْلِ الْمَذْكُورِ يَخِفُّ فَيَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ، وَخَرَجَ بِالْعِلْجِ مَا لَوْ عَاقَدَ مُسْلِمًا بِمَا ذُكِرَ فَإِنْ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْإِمَامِ عَدَمُ الصِّحَّةِ، وَتَبِعَهُ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنْوَاعَ غَرَرٍ فَلَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ وَاحْتُمِلَتْ مَعَ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِأَحْوَالِ قِلَاعِهِمْ وَطُرُقِهِمْ غَالِبًا، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالدَّلَالَةُ نَوْعٌ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْعِرَاقِيُّونَ الْجَوَازُ، وَقَالَ: فِي الْبَحْرِ إنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ: الْأَذْرَعِيُّ إنَّهُ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ كَشَرْطِ النَّفْلِ فِي الْبَرَاءَةِ وَالرَّجْعَةِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْغَنِيمَةِ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ عَمَّا إذَا قَالَ: الْإِمَامُ وَلَهُ جَارِيَةٌ مِمَّا عِنْدِي مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلْجَهْلِ بِالْجُعْلِ كَسَائِرِ الْجَعَالَاتِ، وَتَعْبِيرُهُ بِالْجَارِيَةِ مِثَالٌ، وَلَوْ قَالَ: جُعْلٌ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ لِكَانَ أَشْمَلَ (فَإِنْ فُتِحَتْ) أَيْ الْقَلْعَةُ عَنْوَةً بِمَنْ عَاقَدَهُ (بِدَلَالَتِهِ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتَحَهَا وَفِيهَا الْجَارِيَةُ الْمُعَيَّنَةُ أَوْ الْمُبْهَمَةُ حَيَّةً وَلَمْ تُسْلِمْ قَبْلَ إسْلَامِهِ (أُعْطِيَهَا) وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سِوَاهَا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالشَّرْطِ قَبْلَ الظَّفَرِ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ يُعْطَاهَا مَتَى فُتِحَتْ بِدَلَالَتِهِ وَلَوْ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَأَنْ تَرَكْنَاهَا ثُمَّ عُدْنَا إلَيْهَا وَهُوَ كَذَلِكَ (أَوْ) فُتِحَتْ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَاقَدَهُ وَلَوْ بِدَلَالَتِهِ أَوْ مِمَّنْ عَاقَدَهُ لَكِنْ (بِغَيْرِهَا) أَيْ دَلَالَتِهِ (فَلَا) شَيْءَ لَهُ (فِي الْأَصَحِّ) أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِانْتِفَاءِ مُعَاقَدَتِهِ مَعَ مَنْ فَتَحَهَا. وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ الْقَصْدَ الدَّلَالَةُ الْمُوصِلَةُ إلَى الْفَتْحِ وَلَمْ تُوجَدْ. وَالثَّانِي يَسْتَحِقُّهَا لِدَلَالَتِهِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى ذَلِكَ (فَإِنْ لَمْ تُفْتَحْ) تِلْكَ الْقَلْعَةُ (فَلَا شَيْءَ لَهُ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ مُقَيَّدٌ بِشَيْئَيْنِ: الدَّلَالَةُ وَالْفَتْحُ (وَقِيلَ: إنْ لَمْ يُعَلِّقْ الْجُعْلَ بِالْفَتْحِ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلٍ) لِوُجُودِ الدَّلَالَةِ، وَرُدَّ بِأَنَّ تَسْلِيمَهَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْفَتْحِ فَالشَّرْطُ مُقَيَّدٌ بِهِ حَقِيقَةً وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَفْظًا. أَمَّا إذَا عَلَّقَ الْجُعْلَ بِالْفَتْحِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا قَطْعًا. تَنْبِيهٌ: هَذَا إذَا كَانَ الْجُعْلُ مِنْ الْقَلْعَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا قَالَ: الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ فَتْحُهَا بِلَا خِلَافٍ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَارِيَةٌ) أَصْلًا (أَوْ) كَانَتْ وَلَكِنْ (مَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ) لِفَقْدِ الْمَشْرُوطِ (أَوْ) مَاتَتْ (بَعْدَ) الْعَقْدِ وَ (الظَّفَرِ) بِهَا (وَجَبَ بَدَلٌ) عَنْهَا جَزْمًا؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، فَالتَّلَفُ مِنْ ضَمَانِهِ (أَوْ) مَاتَتْ (قَبْلَ ظَفَرٍ) بِهَا (فَلَا) بَدَلَ عَنْهَا (فِي الْأَظْهَرِ)؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا فَصَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا، وَالثَّانِي تَجِبُ، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ عُلِّقَ بِهَا وَ هِيَ حَاصِلَةٌ ثُمَّ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهَا، وَهُرُوبُهَا قَبْلَ الظَّفَرِ بِهَا كَمَوْتِهَا (وَإِنْ أَسْلَمَتْ) دُونَ الْعِلْجِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ ظَفَرٍ بِهَا أَوْ بَعْدَهُ (فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ بَدَلٍ) لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِهَا لَهُ بِالْإِسْلَامِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ جَوَازِ شِرَاءِ الْكَافِرِ مُسْلِمًا. قَالَ: الْبُلْقِينِيُّ: وَهَذَا الْبِنَاءُ مَرْدُودٌ بَلْ يَسْتَحِقُّهَا قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالظَّفَرِ وَقَدْ كَانَتْ إذْ ذَاكَ كَافِرَةً فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهَا، كَمَا لَوْ مَلَكَهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ، لَكِنْ لَا تُسَلَّمُ إلَيْهِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ الَّذِي بَاعَهُ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ قَبْلَ الْقَبْضِ، لَكِنْ هُنَاكَ يَقْبِضُهُ لَهُ الْحَاكِمُ، وَهُنَا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ بِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَهُنَا جَعَالَةٌ جَائِزَةٌ مَعَ الْمُسَامَحَةِ فِيهَا مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي غَيْرِهَا فَلَا تَلْحَقُ بِغَيْرِهَا. أَمَّا لَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّهَا قَدْ فَاتَتْهُ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِيه، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّف بِغَيْرِ التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ اسْتِحْقَاقَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ مُتَبَرِّعًا (وَهُوَ) أَيْ الْبَدَلُ فِي الْجَارِيَةِ الْمُعَيَّنَةِ حَيْثُ وَجَبَ (أُجْرَةُ مِثْلٍ) فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الْإِمَامِ (وَقِيلَ قِيمَتُهَا) وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَمَحِلُّهُ مِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ لَا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ، وَلَا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ. وَأَمَّا الْمُبْهَمَةُ فَإِنْ وَجَبَ الْبَدَلُ فِيهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ قَطْعًا لِتَعَذُّرِ تَقْوِيمِ الْمَجْهُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تُسَلَّمُ إلَيْهِ قِيمَةُ مَنْ تُسَلَّمُ إلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، قَالَهُ الشَّيْخَانِ. وَالثَّانِي أَوْجَهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. أَمَّا إذَا فُتِحَتْ الْقَلْعَةُ صُلْحًا بِدَلَالَتِهِ فَيُنْظَرُ إنْ دَخَلَتْ الْجَارِيَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْأَمَانِ وَلَمْ يَرْضَ أَصْحَابُ الْقَلْعَةِ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ، وَلَا رَضِيَ الْعِلْجُ بِعِوَضِهَا، وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ نَقَضْنَا الصُّلْحَ وَبُلِّغُوا الْمَأْمَنَ بِأَنْ يُرَدُّوا إلَى الْقَلْعَةِ ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ الْقِتَالُ، وَإِنْ رَضِيَ أَصْحَابُ الْقَلْعَةِ بِتَسْلِيمِهَا بِقِيمَتِهَا دَفَعْنَا لَهُمْ الْقِيمَةَ، وَهَلْ هِيَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ أَوْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُ الرَّضْخُ؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَ: الزَّرْكَشِيُّ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ الْأَمَانِ بِأَنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَمَانِ صَاحِبِ الْقَلْعَةِ وَأَهْلِهِ وَلَمْ تَكُنْ الْجَارِيَةُ مِنْهُمْ سُلِّمَتْ إلَى الْعِلْجِ. خَاتِمَةٌ: فِيهَا مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ: لَوْ صَالَحَ زَعِيمُ قَلْعَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ أَهْلِهَا عَلَى أَمَانِ مِائَةٍ مِنْهُمْ صَحَّ وَإِنْ جُهِلَتْ أَعْيَانُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِنْ عَدَّ مِائَةً غَيْرَ نَفْسِهِ جَازَ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْمِائَةِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَاصَرَ مَدِينَةً فَصَالَحَهُ دُهْقَانُهَا عَلَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ الْمَدِينَةَ وَيُؤَمِّنَ مِائَةَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَالَ: أَبُو مُوسَى: اللَّهُمَّ أَمِّنْهُ نَفْسَهُ، فَلَمَّا عَزَلَهُمْ قَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى أَفَرَغْت؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَمَّنَهُمْ وَأَمَرَ بِقَتْلِ الدُّهْقَانِ، فَقَالَ: أَتَغْدِرُنِي وَقَدْ أَمَّنْتَنِي قَالَ: أَمَّنْتُ الْعِدَّةَ الَّتِي سَمَّيْتَ وَلَمْ تُسَمِّ نَفْسَكَ، فَنَادَى بِالْوَيْلِ، وَبَذَلَ مَالًا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ وَقَتَلَهُ، وَيَسْقُطُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ حَدُّ الزِّنَا عَنْهُ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ لِآيَةِ {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} مَعَ كَوْنِ الْحَقِّ لَهُ تَعَالَى، وَلَا تَسْقُطُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَظِهَارٍ وَقَتْلٍ كَالدَّيْنِ، وَعَلَيْهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ رَدُّ مَالِ مُسْلِمٍ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَلَوْ بِدَارِ الْحَرْبِ. فَإِنْ غَنِمْنَاهُ وَلَوْ مَعَ أَمْوَالِهِمْ رُدَّ لِمَالِكِهِ، وَإِنْ خَرَجَ لِوَاحِدٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ رَدَّهُ أَيْضًا لِمَالِكِهِ وَغَرِمَ لَهُ الْإِمَامُ بَدَلَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ نُقِضَتْ الْقِسْمَةُ. وَلَوْ اسْتَوْلَدَ الْكَافِرُ جَارِيَةَ مُسْلِمٍ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغُنْمِ أَخَذَهَا وَوَلَدَهَا مَالِكُهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا، وَيُنْدَبُ لَهُ عَدَمُ أَخْذِهَا. وَلَوْ نَكَحَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمَةً، أَوْ أَصَابَهَا بِشُبْهَةٍ وَوَلَدَتْ مِنْهُ لَحِقَهُ الْوَلَدُ لِلشُّبْهَةِ، ثُمَّ إنْ ظَفِرْنَا بِهِمْ لَمْ يَرِقَّ الْوَلَدُ كَأُمِّهِ لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لَهَا، وَلَوْ وُجِدَ أَسِيرٌ بِدَارِنَا فَادَّعَى الْإِسْلَامَ أَوْ الذِّمَّةَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، بِخِلَافِ أَسِيرٍ وُجِدَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَوْ غَنِمْنَا رَقِيقًا مُسْلِمًا اشْتَرَاهُ كَافِرٌ مِنْ مُسْلِمٍ رُدَّ لِبَائِعِهِ وَرَدَّ بَائِعُهُ الثَّمَنَ لِلْكَافِرِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ. وَفِدَاءُ الْأَسِيرِ مَنْدُوبٌ لِلْآحَادِ، فَلَوْ قَالَ: شَخْصٌ لِلْكَافِرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَسِيرِ: أَطْلِقْهُ وَلَك عَلَيَّ كَذَا لَزِمَهُ وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْأَسِيرِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ إذَا غَرِمَهُ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الرُّجُوعَ كَقَوْلِ الْمَدِينِ لِغَيْرِهِ اقْضِ دَيْنِي، وَلَوْ قَالَ: الْأَسِيرُ لِلْكَافِرِ: أَطْلِقْنِي بِكَذَا، أَوْ قَالَ: لَهُ الْكَافِرُ: افْدِ نَفْسَكَ بِكَذَا فَقَبِلَ لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَوْ الْتَزَمَ لَهُمْ مَالًا لِيُطْلِقُوهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمِنْ أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا لَهُ خُذْ هَذَا وَابْعَثْ لَنَا كَذَا مِنْ الْمَالِ فَقَالَ: نَعَمْ فَهُوَ كَالشِّرَاءِ مُكْرَهًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ. وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ مَا هُنَا كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ مَا مَرَّ فِي الْأُولَى صُورَتُهُ أَنْ يُعَاقِدَهُ عَلَى أَنْ يُطْلِقَهُ لِيَعُودَ إلَيْهِ أَوْ يَرُدَّ إلَيْهِ مَالًا كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الدَّارِمِيُّ، وَهُنَا عَاقَدَهُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ عَيْنًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا عَقْدَ فِيهَا فِي الْحَقِيقَةِ. وَ لَوْ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا اُفْتُدِيَ بِهِ الْأَسِيرُ لَزِمَهُمْ رَدُّهُ لِلْمُفَادِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ، وَأَمَانُهُ مُخْتَصٌّ بِبَلَدٍ بُلِّغَ مَأْمَنَهُ، فَإِنْ كَانَ أَمَانُهُ عَامًّا لَمْ يَجِبْ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ؛ لِأَنَّ مَا يَتَّصِلُ بِبِلَادِنَا مِنْ بِلَادِهِمْ مِنْ مَحِلِّ أَمَانِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُدَّةِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَمَانَ.
المتن: صُورَةُ عَقْدِهَا: أُقِرُّكُمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَذِنْتُ فِي إقَامَتِكُمْ بِهَا عَلَى أَنْ تَبْذُلُوا جِزْيَةً وَتَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ ذِكْرِ قَدْرِهَا، لَا كَفِّ اللِّسَانِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ.
الشَّرْحُ: (كِتَابُ) عَقْدِ (الْجِزْيَةِ) لِلْكُفَّارِ لَمَّا فَرَغَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عَقَّبَهُ بِالْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيَّا الْقِتَالَ بِهَا بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} الْآيَةَ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى الْمَالِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُجَازَاةِ لِكَفِّنَا عَنْهُمْ، وَقِيلَ مِنْ الْجَزَاءِ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أَيْ لَا تَقْضِي، وَيُقَالُ: جَزَيْتُ دَيْنِي: أَيْ قَضَيْتُهُ، وَجَمْعُهَا جِزًى كَقَرْيَةِ وَقُرًى، وَلَيْسَتْ هِيَ مَأْخُوذَةٌ فِي مُقَابَلَةِ الْكُفْرِ وَلَا التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ، بَلْ هِيَ نَوْعُ إذْلَالٍ لَهُمْ وَمَعُونَةٌ لَنَا، وَرُبَّمَا يَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ الدَّاعِيَةِ إلَى مَعْرِفَةِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} الْآيَةَ، وَقَدْ أَخَذَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَمِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ إنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وَأَرْكَانُهَا خَمْسَةٌ: صِيغَةٌ، وَعَاقِدٌ، وَمَعْقُودٌ لَهُ، وَمَكَانٌ، وَمَالٌ. وَقَدْ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِهَا فَقَالَ (صُورَةُ عَقْدِهَا) مِنْ الْمُوجِبِ وَسَيَأْتِي أَنَّهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ نَحْوُ (أُقِرُّكُمْ) كَأَقْرَرْتُكُمْ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَوْ الْمُضَارِعِ، وَقَوْلُ الْبُلْقِينِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بِالْمُضَارِعِ الْحَالَ أَوْ الِاسْتِقْبَالَ لِيَنْسَلِخَ عَنْ مَعْنَى الْوَعْدِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ عِنْدَ التَّجَرُّدِ مِنْ الْقَرَائِنِ يَكُونُ لِلْحَالِ . قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ: وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ صِيَغَ الْمُضَارِعِ تَأْتِي لِلْإِنْشَاءِ كَأَشْهَدُ وَنَحْوِهِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (بِدَارِ الْإِسْلَامِ) لَيْسَ بِقَيْدٍ فَقَدْ يُقِرُّهُمْ بِالْجِزْيَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ (أَوْ أَذِنْتُ فِي إقَامَتِكُمْ بِهَا) غَيْرَ الْحِجَازِ كَمَا سَيَأْتِي (عَلَى أَنْ تَبْذُلُوا) بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ تُعْطُوا بِمَعْنَى تَلْتَزِمُوا (جِزْيَةً) هِيَ كَذَا فِي كُلِّ حَوْلٍ. قَالَ الْجُرْجَانِيِّ: وَيَقُولُ: أَوَّلَ الْحَوْلِ أَوْ آخِرَهُ (وَتَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ) فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ، وَكَذَا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ دُونَ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنِكَاحِ الْمَجُوسِ، وَقَدْ فُسِّرَ إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ فِي الْآيَةِ بِالْتِزَامِهَا، وَالصَّغَارُ بِالْتِزَامِ أَحْكَامِنَا. قَالُوا: وَأَشَدُّ الصَّغَارِ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ وَيَضْطَرُّ إلَى احْتِمَالِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ فِي الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَعَ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ كَالْعِوَضِ عَنْ التَّقْرِيرِ فَيَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ. أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَكْفِي فِيهَا الِانْقِيَادُ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ، إذْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا. تَنْبِيهٌ: لَا تَنْحَصِرُ صِيغَةُ إيجَابِهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَلَوْ قَالَ الْكَافِرُ ابْتِدَاءً: أَقْرِرْنِي بِكَذَا فَقَالَ الْإِمَامُ أَقْرَرْتُك كَفَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِيجَابَ كَالْقَبُولِ (وَالْأَصَحُّ ذِكْرُ اشْتِرَاطِ قَدْرِهَا) أَيْ الْجِزْيَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّهَا كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ. وَالثَّانِي وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا خِلَافُ مَا يُفْهِمهُ كَلَامُهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ عِنْد الْإِطْلَاقِ. تَنْبِيهٌ: أَفْهَمَ تَخْصِيصُهُ الْخِلَافَ بِذِكْرِ قَدْرِهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ الِانْقِيَادِ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ ذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْإِمَامُ فِيهِ خِلَافًا: لِأَنَّ الْأَحْكَامَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَالتَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ (لَا كَفُّ اللِّسَانِ) مِنْهُمْ (عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ) فَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ لِدُخُولِهِ فِي شَرْطِ الِانْقِيَادِ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ، إذْ بِهِ تَحْصُلُ الْمُسَالَمَةُ وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
المتن: وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مُؤَقَّتًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظُ قَبُولٍ، وَلَوْ وُجِدَ كَافِرٌ بِدَارِنَا فَقَالَ دَخَلْتُ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ رَسُولًا، أَوْ بِأَمَانِ مُسْلِمٍ صُدِّقَ، وَفِي دَعْوَى الْأَمَانِ وَجْهٌ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ) لِلْجِزْيَةِ (مُؤَقَّتًا عَلَى الْمَذْهَبِ)؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُحْقَنُ بِهِ الدَّمُ فَلَا يَجُوزُ مُؤَقَّتًا كَعِقْدِ الْإِسْلَامِ وَفِي قَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ يَصِحُّ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي التَّأْقِيتِ بِمَعْلُومٍ كَسَنَةٍ. أَمَّا الْمَجْهُولُ كَأُقِرُّكُمْ مَا شِئْنَا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ زَيْدٌ، أَوْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ، فَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ} فَإِنَّمَا جَرَى فِي الْمُهَادَنَةِ حِينَ وَادَعَ يَهُودَ خَيْبَرَ، لَا فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ، بَلْ يَجُوزُ الْإِطْلَاقُ، وَهُوَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، وَلَوْ قَالَ: أُقِرُّكُمْ مَا شِئْتُمْ صَحَّ؛ لِأَنَّ لَهُمْ نَبَذَ الْعَقْدِ مَتَى شَاءُوا فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ لَا تَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ عَقْدَهَا عَنْ مَوْضُوعِهِ مِنْ كَوْنِهِ مُؤَقَّتًا إلَى مَا يُحْتَمَلُ تَأْبِيدُهُ الْمُنَافِي لِمُقْتَضَاهُ. (وَيُشْتَرَطُ) فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ مِنْ النَّاطِقِ (لَفْظُ قَبُولٍ) كَقَبِلْت أَوْ رَضِيتُ بِذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ. أَمَّا الْأَخْرَسُ فَيَكْفِي فِيهِ الْإِشَارَةُ الْمُفْهِمَةُ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ نُطْقِهِ، وَتَكْفِي الْكِتَابَةُ مَعَ النِّيَّةِ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ كَالْبَيْعِ، بَلْ أَوْلَى، وَكَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الْأَمَانِ. تَنْبِيهٌ: سَكَتُوا عَنْ شَرْطِ اتِّصَالِ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ، وَظَاهِرٌ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: يَقْرَبُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ (وَلَوْ وُجِدَ كَافِرٌ بِدَارِنَا فَقَالَ: دَخَلْتُ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ) قَالَ دَخَلْتُ (رَسُولًا) وَلَوْ عَبْدًا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ أَمْ لَا (أَوْ) قَالَ دَخَلْتُ (بِأَمَانِ مُسْلِمٍ) يَصِحُّ أَمَانُهُ (صُدِّقَ) فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ لِاحْتِمَالِ مَا يَدَّعِيهِ، وَقَصْدُ ذَلِكَ يُؤَمِّنُهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى تَأْمِينٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: دَخَلْتُ لِأُسْلِمَ، أَوْ لِأَبْذُلَ جِزْيَةً. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ ذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ عِنْدنَا أَسِيرًا، وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ (وَفِي دَعْوَى الْأَمَانِ وَجْهٌ) أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ، بَلْ يُطَالَبُ بِبَيِّنَةٍ لِإِمْكَانِهَا غَالِبًا. وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَإِنْ اُتُّهِمَ حَلَفَ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ كَجٍّ فِي مُدَّعِي الرِّسَالَةِ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي غَيْرِهِ.
المتن: وَيُشْتَرَطُ لِعِقْدِهَا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إذَا طَلَبُوا.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي، وَهُوَ الْعَاقِدُ، فَقَالَ (وَيُشْتَرَطُ لِعِقْدِهَا الْإِمَامُ، أَوْ نَائِبُهُ) فِيهَا خُصُوصًا أَوْ عُمُومًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعِظَامِ فَتَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، فَلَا يَصِحُّ عَقْدُهَا مِنْ غَيْرِهِمَا، لَكِنْ لَا يُغْتَالُ الْمَعْقُودُ لَهُ، بَلْ يَبْلُغُ مَأْمَنَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَ سَنَةً فَأَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَغْوٌ (وَعَلَيْهِ) أَيْ عَاقِدِهَا (الْإِجَابَةُ إذَا طَلَبُوا) عَقْدَهَا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ، إلَى أَنْ قَالَ: فَإِذَا هُمْ أَبَوْا الْإِسْلَامَ فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ}
المتن: إلَّا جَاسُوسًا نَخَافُهُ.
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْأَسْرِ. فَأَمَّا الْأَسِيرُ إذَا طَلَبَ عَقْدَ الْجِزْيَةِ لَا تَجِبُ إجَابَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ (إلَّا) إذَا طَلَبَ عَقْدَهَا شَخْصٌ يُخَافُ كَيْدُهُ كَأَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ (جَاسُوسًا نَخَافُهُ) فَلَا نُجِيبُهُ لِلضَّرَرِ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ، بَلْ لَا نَقْبَلُ الْجِزْيَةَ مِنْهُ، وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ: كَمَا أَنَّ النَّامُوسَ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ. .
المتن: وَلَا تُعْقَدُ إلَّا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَأَوْلَادِ مَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ شَكَكْنَا فِي وَقْتِهِ وَكَذَا زَاعِمُ التَّمَسُّكِ بِصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ وَمَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيٌّ وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ عَلَى الْمَذْهَبِ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ لَهُ فَقَالَ (وَلَا تُعْقَدُ) الْجِزْيَةُ (إلَّا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ الَّذِينَ لَمْ يُعْلَمْ دُخُولُهُمْ فِي ذَلِكَ الدِّينِ بَعْدَ نَسْخِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} إلَى أَنْ قَالَ: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} (وَالْمَجُوس) {؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْهُمْ، وَقَالَ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ} وَلِأَنَّ لَهُمْ شُبْهَةَ كِتَابِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ (وَأَوْلَادِ مَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ قَبْلَ النَّسْخِ) لِدِينِهِ وَلَوْ بَعْدَ التَّبْدِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَنِبُوا الْمُبْدَلَ مِنْهُ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا ذَبِيحَتُهُمْ كَمَا مَرَّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ وَالْمَيْتَاتِ التَّحْرِيمُ. تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِالنَّسْخِ نَسْخُ التَّوْرَاةِ بِالْإِنْجِيلِ فِي الْيَهُودِ، وَنَسْخُ الْإِنْجِيلِ فِي النَّصَارَى بِبَعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُعْقَدُ لِأَوْلَادِ مَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ بَعْدَ النَّسْخِ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا، أَوْ تَهَوَّدَ بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى كَآبَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِدِينٍ بَاطِلٍ وَسَقَطَتْ فَضِيلَتُهُ (أَوْ) أَيْ وَتُعْقَدُ أَيْضًا لِمَنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ كَأَنْ (شَكَكْنَا فِي وَقْتِهِ) أَيْ التَّهَوُّدِ أَوْ التَّنَصُّرِ فَلَمْ نَعْرِفْ أَدَخَلُوا قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ بَعْدَهُ؟ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ كَالْمَجُوسِ، وَبِذَلِكَ حَكَمَتْ الصَّحَابَةُ فِي نَصَارَى الْعَرَبِ وَهُمْ نَهَرَا وَتَنُوخُ وَبَنُو تَغْلِبَ تَنْبِيهٌ: فُهِمَ مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ يَهُودَ خَيْبَرَ كَغَيْرِهِمْ، وَانْفَرَدَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْقَاطِ الْجِزْيَة عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَاهُمْ وَجَعَلَهُمْ بِذَلِكَ خَوَلًا: أَيْ عَبِيدًا، وَسُئِلَ ابْنُ سُرَيْجٍ عَمَّا يَدَّعُونَهُ مِنْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا بِإِسْقَاطِهَا. فَقَالَ: لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الصَّابِئَةُ وَالسَّامِرَةُ فَتُعْقَدُ لَهُمْ الْجِزْيَةُ إنْ لَمْ تُكَفِّرْهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَلَمْ يُخَالِفُوهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ، وَإِلَّا فَلَا تُعْقَدُ لَهُمْ، وَكَذَا تُعْقَدُ لَهُمْ لَوْ أَشْكَلَ أَمْرُهُمْ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا شُبْهَةُ كِتَابٍ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالشَّمْسِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ كَمَنْ يَقُولُ إنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ، وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ فَلَا يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، سَوَاءٌ فِيهِمْ الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْعَجَمِ مِنْهُمْ، وَعِنْدَ مَالِكٍ تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ إلَّا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ (وَكَذَا) يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ (زَاعِمُ التَّمَسُّكِ بِصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ) وَكَذَا صُحُفُ شِيثٍ وَهُوَ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِمَا صُحُفًا، فَقَالَ: {صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} وَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} وَتُسَمَّى كِتَابًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَانْدَرَجَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَقِيلَ لَا تُعْقَدُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهَا مَوَاعِظُ لَا أَحْكَامَ لَهَا، فَلَيْسَ لَهَا حُرْمَةُ الْأَحْكَامِ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَذَبِيحَتُهُمْ عَلَى الْمَذْهَبِ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ (وَمَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيٌّ وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ) تُعْقَدُ لَهُ (عَلَى الْمَذْهَبِ) وَإِنْ كَانَ الْكِتَابِيُّ أَمَةً تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ، وَتُحْرَمُ مُنَاكَحَتُهُ وَذَبِيحَتُهُ احْتِيَاطًا، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي لَا تُعْقَدُ لَهُ كَمَا لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ رَاجِعٌ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَلَوْ ظَفِرْنَا بِقَوْمٍ وَادَّعَوْا أَوْ بَعْضُهُمْ التَّمَسُّكَ تَبَعًا لِتَمَسُّكِ آبَائِهِمْ بِكِتَابٍ قَبْلَ النَّسْخِ، وَلَوْ بَعْدَ التَّبْدِيلِ صَدَّقْنَا الْمُدَّعِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَعُقِدَ لَهُمْ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّ دِينَهُمْ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ. فَإِنْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِكَذِبِهِمْ: فَإِنْ كَانَ قَدْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَقْدِ قِتَالُهُمْ إنْ بَانَ كَذِبُهُمْ اغْتَلْنَاهُمْ، وَكَذَا إنْ لَمْ يُشْرَطْ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ: نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ: عَنْ النَّصِّ لِتَلْبِيسِهِمْ عَلَيْنَا. وَلَوْ تَوَثَّنَ نَصْرَانِيٌّ بَلَغَ الْمَأْمَنَ. ثُمَّ أَطْفَالٌ الْمُتَوَثِّنِينَ مِنْ أُمِّهِمْ النَّصْرَانِيَّةِ نَصَارَى، وَكَذَا أَطْفَالُ النَّصَارَى مِنْ أُمِّهِمْ الْوَثَنِيَّةِ فَتُعْقَدُ الْجِزْيَةُ لِمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ عَلَقَةُ التَّنَصُّرِ، فَلَا تَزُولُ بِمَا يَحْدُثُ بَعْدُ.
المتن: وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَخُنْثَى، وَمَنْ فِيهِ رِقٌّ وَصَبِيٍّ
الشَّرْحُ: (وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَهُوَ خِطَابُ الذُّكُورِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ لَا تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ". تَنْبِيهٌ: لَوْ طَلَبَ النِّسَاءُ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ أَعْلَمَهُنَّ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِنَّ. فَإِنْ رَغِبْنَ فِي بَذْلِهَا فَهِيَ هِبَةٌ لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ (وَ) لَا عَلَى (خُنْثَى) لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ أُنْثَى، فَإِنْ بَانَتْ ذُكُورَتُهُ، وَقَدْ عُقِدَ لَهُ الْجِزْيَةُ طَالَبْنَاهُ بِجِزْيَةِ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ عَمَلًا بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا وَبَقِيَ مُدَّةً ثُمَّ اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ لَا نَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا لِمَا مَضَى لِعَدَمِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ لَهُ، وَالْخُنْثَى كَذَلِكَ إذَا بَانَتْ ذُكُورَتُهُ وَلَمْ تُعْقَدْ لَهُ الْجِزْيَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ مَنْ صَحَّحَ الْأَخْذَ مِنْهُ، وَمَنْ صَحَّحَ عَدَمَهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْبُلْقِينِيُّ: (وَ) لَا عَلَى (مَنْ فِيهِ رِقٌّ)، فَمَنْ كُلُّهُ رَقِيقٌ أَوْلَى وَلَوْ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَالْعَبْدُ مَالٌ وَالْمَالُ لَا جِزْيَةَ فِيهِ، وَكَمَا لَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لَا تَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ بِسَبَبِهِ، فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا وَجَبَتْ عَلَى الْمُبَعَّضِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ كَمَنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ فَإِنَّ إفَاقَتَهُ تُلَفَّقُ كَمَا سَيَأْتِي. وَيَجِبُ عَلَيْهِ بِقَدْرِهَا. أُجِيبَ بِأَنَّ الْجُنُونَ وَالْإِفَاقَةَ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ (وَ) لَا عَلَى (صَبِيٍّ) {لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ - أَيْ مُحْتَلِمٍ - دِينَارًا} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد، وَلَوْ عَقَدَ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُؤَدُّوا عَنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ شَيْئًا غَيْرَ مَا يُؤَدُّونَهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. فَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّجَالِ جَازَ وَلَزِمَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ لَمْ يَجُزْ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ.
المتن: وَمَجْنُونٍ، فَإِنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ قَلِيلًا كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ لَزِمَتْهُ، أَوْ كَثِيرًا كَيَوْمٍ وَيَوْمٍ فَالْأَصَحُّ تُلَفَّقُ الْإِفَاقَةُ، فَإِذَا بَلَغَتْ سَنَةً وَجَبَتْ، وَلَوْ بَلَغَ ابْنُ ذِمِّيٍّ وَلَمْ يَبْذُلْ جِزْيَةً أُلْحِقَ بِمَنَامِهِ، وَإِنْ بَذْلَهَا عُقِدَ لَهُ، وَقِيلَ عَلَيْهِ كَجِزْيَةِ أَبِيهِ، وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهَا عَلَى زَمِنٍ وَشَيْخٍ هَرِمٍ وَأَعْمَى وَرَاهِبٍ وَأَجِيرٍ وَفَقِيرٍ كَسْبٍ فَإِذَا تَمَّتْ سَنَةٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَفِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ.
الشَّرْحُ: (وَ) لَا عَلَى (مَجْنُونٍ) أَطْبَقَ جُنُونُهُ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ (فَإِنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ) وَكَانَ (قَلِيلًا كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ لَزِمَتْهُ) وَلَا عِبْرَةَ بِهَذَا الزَّمَنِ الْيَسِيرِ، وَكَذَا لَا أَثَرَ لِيَسِيرِ زَمَنِ الْإِفَاقَةِ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا (أَوْ كَثِيرًا كَيَوْمٍ وَيَوْمٍ، فَالْأَصَحُّ تُلَفَّقُ الْإِفَاقَةُ) أَيْ زَمَنُهَا (فَإِذَا بَلَغَتْ) أَزْمِنَةُ الْإِفَاقَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ (سَنَةً) فَأَكْثَرَ (وَجَبَتْ) جِزْيَةٌ اعْتِبَارًا لِلْأَزْمِنَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ بِالْأَزْمِنَةِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَالثَّانِي لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِنُقْصَانِهِ كَالْبَعْضِ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا أَمْكَنَ التَّلْفِيقُ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْجُنُونِ كَمَا اسْتَظْهَرَهُ شَيْخُنَا هَذَا إذَا تَعَاقَبَ الْجُنُونُ وَالْإِفَاقَةُ، فَلَوْ كَانَ عَاقِلًا فَجُنَّ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَكَمَوْتِ الذِّمِّيِّ فِي أَثْنَائِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ فِي أَثْنَائِهِ اسْتَقْبَلَ الْحَوْلَ حِينَئِذٍ (وَلَوْ بَلَغَ ابْنُ ذِمِّيٍّ) وَلَوْ بِنَبَاتِ عَانَتِهِ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدُ (وَلَمْ يَبْذُلْ) بِالْمُعْجَمَةِ: أَيْ يُعْطِ (جِزْيَةً) بَعْدَ طَلَبِنَا لَهَا مِنْهُ (أُلْحِقَ بِمَأْمَنِهِ) سَوَاءٌ أَعْتَقَ الْعَبْدَ ذِمِّيٌّ أَمْ مُسْلِمٌ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَتِيقَ الْمُسْلِمِ لَا تُضْرَبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لِحُرْمَةِ وَلَائِهِ (وَإِنْ بَذْلَهَا) مَنْ ذُكِرَ (عُقِدَ لَهُ) وَلَا يَكْفِي عَقْدُ أَبٍ وَسَيِّدٍ، وَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ أَدْخَلَهُ فِي عَقْدِهِ إذَا بَلَغَ أَوْ عَتَقَ كَأَنْ قَالَ قَدْ الْتَزَمْتُ هَذَا عَنِّي وَعَنْ ابْنِي إذَا بَلَغَ، أَوْ عَبْدِي إذَا عَتَقَ (وَقِيلَ عَلَيْهِ) أَيْ الصَّبِيِّ (كَجِزْيَةِ أَبِيهِ) وَلَا يَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ اكْتِفَاءً بِعَقْدِ أَبِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فَيُعْقَدُ لَهُ عَقْدٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَيُسَاوَمُ كَغَيْرِهِ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ بِالْكَمَالِ وَلِوُجُوبِ جِزْيَةٍ أُخْرَى، وَمَرَّ أَنَّ إعْطَاءَهَا فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْتِزَامِهَا، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ حَوْلَ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ وَاحِدًا لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ أَخَذُ الْجِزْيَةِ، وَيَسْتَوْفِيَ مَا لَزِمَ التَّابِعَ فِي بَقِيَّةِ الْعَامِ الَّذِي اتَّفَقَ الْكَمَالُ فِي أَثْنَائِهِ إنْ رَضِيَ التَّابِعُ بِذَلِكَ أَوْ يُؤَخِّرَهُ إلَى الْحَوْلِ الثَّانِي فَيَأْخُذَهُ مَعَ جِزْيَةِ الْمَتْبُوعِ فِي آخِرِهِ، لِئَلَّا يَخْتَلِفَ أَوَاخِرُ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ شَاءَ أَفْرَدَهُمَا بِحَوْلٍ فَيَأْخُذُ مَا لَزِمَ كُلًّا مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا فَعَقَدَ لِنَفْسِهِ أَوْ عَقَدَ لَهُ وَلِيُّهُ بِدِينَارٍ صَحَّ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ حَقْنِ الدَّمِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْحَقْنَ مُمْكِنٌ بِدِينَارٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَالَحَ السَّفِيهَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ صَحَّ صِيَانَةً لِرُوحِهِ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ صَوْنَ الدَّمِ فِي الْجِزْيَةِ يَحْصُلُ بِالدِّينَارِ، وَصَوْنُ الرُّوحُ لَا يَحْصُلُ فِي الْقِصَاصِ إلَّا بِالزِّيَادَةِ، إذْ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ قَبُولُ الدِّينَارِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ قَبُولُ الدِّيَةِ، وَلَوْ اخْتَارَ السَّفِيهُ أَنْ يَلْتَحِقَ بِالْمَأْمَنِ لَمْ يَمْنَعْهُ وَلِيُّهُ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ عَلَى مَالِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ (وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهَا عَلَى زَمِنٍ وَشَيْخٍ هَرِمٍ وَأَعْمَى وَرَاهِبٍ وَأَجِيرٍ)؛ لِأَنَّهَا كَأُجْرَةِ الدَّارِ، فَيَسْتَوِي فِيهَا أَرْبَابُ الْأَعْذَارِ وَغَيْرُهُمْ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ إنْ قُلْنَا لَا يُقْتَلُونَ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ (وَ) عَلَى (فَقِيرٍ عَجَزَ عَنْ كَسْبٍ) وَلَوْ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ كَالْغَنِيِّ فِي حَقْنِ الدَّمِ وَالسُّكْنَى (فَإِذَا تَمَّتْ سَنَةٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَفِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ) وَكَذَا حُكْمُ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا كَمَا تَعَامَلَ الْمُعْسِرُ، وَيُطَالَبُ إذَا أَيْسَرَ، وَفِي قَوْلٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ إنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ عَطْفِ الْمُصَنِّفِ لَهُ عَلَى الزَّمَنِ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ طَرِيقَانِ. تَنْبِيهٌ: سَكَتَا عَنْ تَفْسِيرِ الْفَقِيرِ هُنَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ وَالرَّازِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ أَحَدُهُمَا مُسْتَحِقُّ الزَّكَاةِ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا، وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَشْبَهُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ: مَنْ لَا يَمْلِكُ فَاضِلًا عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ آخِرَ الْحَوْلِ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ كَمَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ. .
المتن: وَيُمْنَعُ كُلُّ كَافِرٍ مِنْ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ، وَهُوَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَقُرَاهَا، وَقِيلَ لَهُ الْإِقَامَةُ فِي طُرُقِهِ الْمُمْتَدَّةِ، وَلَوْ دَخَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أَخْرَجَهُ وَعَزَّرَهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ، مِنْهُ فَإِنْ اسْتَأْذَنَ أَذِنَ إنْ كَانَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَرِسَالَةٍ وَحَمْلِ مَا نَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ حَاجَةٍ لَمْ يَأْذَنْ إلَّا بِشَرْطِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْقَابِلُ لِلتَّقْرِيرِ. فَقَالَ (وَيُمْنَعُ كُلُّ كَافِرٍ مِنْ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ) سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِجِزْيَةٍ أَمْ لَا لِشَرَفِهِ، وَلِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ {آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ الْحِجَازِ} وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ {أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ} وَخَبَرِ مُسْلِمٍ {لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ} وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْحِجَازُ الْمُشْتَمِلَةُ هِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ الْجَزِيرَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَجَلَاهُمْ مِنْ الْحِجَازِ وَأَقَرَّهُمْ فِي الْيَمَنِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ عَبَّرَ بِالْإِقَامَةِ بَدَلَ الِاسْتِيطَانِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ لَكَانَ أَوْلَى، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِهَا مَنْعُ الِاسْتِيطَانِ وَلَا عَكْسَ، فَلَوْ أَرَادَ الْكَافِرُ أَنْ يَتَّخِذَ دَارًا بِالْحِجَازِ وَلَمْ يَسْكُنْهَا وَلَمْ يَسْتَوْطِنْهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَا حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهُ حُرِّمَ اتِّخَاذُهُ كَالْأَوَانِي وَآلَاتِ الْمَلَاهِي، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ: وَلَا يَتَّخِذُ الذِّمِّيُّ شَيْئًا مِنْ الْحِجَازِ دَارًا (وَهُوَ) أَيْ الْحِجَازُ (مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ) وَهِيَ مَدِينَةٌ بِقُرْبِ الْيَمَنِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ، وَمَرْحَلَتَيْنِ مِنْ الطَّائِفِ: قِيلَ سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَارِيَةٍ زَرْقَاءَ كَانَتْ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ تَسْكُنُهَا (وَقُرَاهَا) أَيْ الثَّلَاثَةِ كَالطَّائِفِ وَوَجٍّ لِمَكَّةَ وَخَيْبَرَ لِلْمَدِينَةِ (وَقِيلَ لَهُ) أَيْ الْكَافِرِ (الْإِقَامَةُ فِي طُرُقِهِ) أَيْ الْحِجَازِ (الْمُمْتَدَّةِ) بَيْنَ هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْإِقَامَةُ فِيهَا عَادَةً؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مُجْتَمَعِ النَّاسِ وَلَا مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِلْبُقْعَةِ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ حَرَمِ مَكَّةَ، فَأَمَّا الْبِقَاعُ الَّتِي مِنْ الْحَرَمِ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْهَا قَطْعًا، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ بَحْرِ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ إقَامَةٍ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي جَزَائِرِهِ وَسَوَاحِلِهِ الْمَسْكُونَةِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ: وَقَالُوا بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَسُمِّيَ ذَلِكَ حِجَازًا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ، وَجَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَفِي الْعَرْضِ مِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ، وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ لِإِحَاطَةِ بَحْرِ الْحَبَشَةِ وَبَحْرِ فَارِسَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ بِهَا (وَلَوْ دَخَلَهُ) كَافِرٌ (بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أَخْرَجَهُ) مِنْهُ لِعَدَمِ إذْنِهِ لَهُ (وَعَزَّرَهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ) لِجَرَاءَتِهِ وَدُخُولِ مَا لَيْسَ لَهُ دُخُولُهُ. فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ أُخْرِجَ وَلَمْ يُعَزَّرْ (فَإِنْ اسْتَأْذَنَ) كَافِرٌ الْإِمَامَ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ (أَذِنَ) لَهُ (إنْ كَانَ) فِي دُخُولِهِ (مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَرِسَالَةٍ) يُؤَدِّيهَا وَعَقْدِ ذِمَّةٍ وَهُدْنَةٍ (وَحَمْلِ مَا نَحْتَاجُ) نَحْنُ (إلَيْهِ) مِنْ طَعَامٍ وَمَتَاعٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةٌ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ (فَإِنْ كَانَ) دُخُولُهُ (لِتِجَارَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ حَاجَةٍ) كَالْعِطْرِ (لَمْ يَأْذَنْ) لَهُ الْإِمَامُ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ (إلَّا بِشَرْطِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا) أَيْ مِنْ مَتَاعِهَا، وَقَدْرُ الْمَشْرُوطِ مَنُوطٌ بِرَأْيِ الْإِمَامِ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ الْقِبْطِ إذَا تَجَرُوا إلَى الْمَدِينَةِ عُشْرَ بَعْضِ الْأَمْتِعَةِ كَالْقَطِيفَةِ، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الْعُشْرِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي حَمْلِهَا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِمَا.
المتن: وَلَا يُقِيمُ إلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
الشَّرْحُ: وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ حَرْبِيٍّ دَخَلَ دَارَنَا رَسُولًا أَوْ بِتِجَارَةٍ نُضْطَرُّ نَحْنُ إلَيْهَا. فَإِنْ لَمْ نُضْطَرَّ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ أَخَذَ شَيْءٍ، وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ عُشْرِهَا جَازَ وَيَجُوزُ دُونَهُ، وَفِي نَوْعٍ أَكْثَرَ مِنْ نَوْعٍ وَلَوْ أَعْفَاهُمْ جَازَ. فَإِنْ شَرَطَ عُشْرَ الثَّمَنِ أُمْهِلُوا إلَى الْبَيْعِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تِجَارَتِهِمْ، وَمَا يُؤْخَذُ فِي الْحَوْلِ لَا يُؤْخَذُ إلَّا مَرَّةً وَلَوْ تَرَدَّدَ، وَوُلَاةُ الْمِكَاسَةِ تَفْعَلُ بِالْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ، وَلَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ تِجَارَةِ ذِمِّيِّ وَلَا ذِمِّيَّةٍ إلَّا إنْ شُرِطَ مَعَ الْجِزْيَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِ مُتَّجِرٍ دَخَلَ بِأَمَانٍ وَإِنْ دَخَلَ الْحِجَازَ، وَيُكْتَبُ لِمَنْ أُخِذَ مِنْهُ بَرَاءَةٌ حَتَّى لَا يُطَالَبَ مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ الْحَوْلِ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ فِي الدُّخُولِ لِلتِّجَارَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ خَصَّهُ الْبُلْقِينِيُّ بِالذِّمِّيِّ، وَقَالَ إنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنْ دُخُولِ الْحِجَازِ لِلتِّجَارَةِ (وَ) إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي الدُّخُولِ (لَا يُقِيمُ إلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) فَأَقَلَّ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَلَا يَحْسِبُ مِنْهَا يَوْمَيْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ كَمَا مَرَّ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةُ الْإِقَامَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا، وَيَشْتَرِطُ الْإِمَامُ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَلَا يُؤَخَّرُ لِقَضَاءِ دَيْنٍ، بَلْ يُوَكِّلُ مَنْ يَقْضِي عَنْهُ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ مَنْعِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثِ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. أَمَّا لَوْ أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى آخَرَ، وَهَكَذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْوَافِي: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ مَوْضِعَيْنِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ وَإِلَّا فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ.
المتن: وَيُمْنَعُ دُخُولَ حَرَمِ مَكَّةَ، فَإِنْ كَانَ رَسُولًا خَرَجَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبٌ يَسْمَعُهُ.
الشَّرْحُ: (وَيُمْنَعُ) الْكَافِرُ وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ (دُخُولَ حَرَمِ مَكَّةَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ بِدَلِيلِ، قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أَيْ فَقْرًا بِانْقِطَاعِ التِّجَارَةِ عَنْكُمْ لِمَنْعِهِمْ مِنْ الْحَرَمِ {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَلْبَ إنَّمَا يُجْلَبُ لِلْبَلَدِ لَا إلَى الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَعُوقِبُوا بِالْمَنْعِ مِنْ دُخُولِهِ بِكُلِّ حَالٍ (فَإِنْ كَانَ رَسُولًا) وَالْإِمَامُ فِي الْحَرَمِ (خَرَجَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبٌ يَسْمَعُهُ) إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا إلَّا إلَيْهِ، وَإِلَّا بَعَثَ إلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ وَيُنْهِي إلَيْهِ، وَإِنَّ طَلَبَ مِنَّا الْمُنَاظَرَةَ لِيُسْلِمَ خَرَجَ إلَيْهِ مَنْ يُنَاظِرُهُ، وَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ خَرَجَ إلَيْهِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي مَنْعِ دُخُولِهِ إلَيْهِ بَيْنَ حَالِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِهَا، وَبِهِ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ.
المتن: وَإِنْ مَرِضَ فِيهِ نُقِلَ، وَإِنْ خِيفَ مَوْتُهُ فَإِنْ مَاتَ لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ، فَإِنْ دُفِنَ نُبِشَ وَأُخْرِجَ، وَإِنْ مَرِضَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْحِجَازِ وَعَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ فِي نَقْلِهِ تُرِكَ وَإِلَّا نُقِلَ، فَإِنْ مَاتَ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ دُفِنَ هُنَاكَ.
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: لَوْ بَذَلَ الْكَافِرُ عَلَى دُخُولِهِ الْحَرَمَ مَالًا لَمْ يُجَبْ إلَيْهِ، فَإِنْ أُجِيبَ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ ثُمَّ إنْ وَصَلَ الْمَقْصَدَ أُخْرِجَ وَثَبَتَ الْمُسَمَّى، أَوْ دُونَ الْمَقْصَدِ فَبِالْقِسْطِ مِنْ الْمُسَمَّى. قَاعِدَةٌ: كُلُّ عَقْدٍ فَسَدَ يَسْقُطُ فِيهِ الْمُسَمَّى إلَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ، وَلَيْسَ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ فَرَجَعَ إلَى الْمُسَمَّى (وَإِنْ مَرِضَ فِيهِ) أَيْ حَرَمِ مَكَّةَ (نُقِلَ) مِنْهُ (وَإِنْ خِيفَ مَوْتُهُ) مِنْ النَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِدُخُولِهِ (فَإِنْ مَاتَ) فِيهِ (لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ) تَطْهِيرًا لِلْحَرَمِ مِنْهُ (فَإِنْ دُفِنَ) فِيهِ (نُبِشَ وَأُخْرِجَ) مِنْهُ إلَى الْحِلِّ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ جِيفَتِهِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ دُخُولِهِ حَيًّا. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ نَبْشِهِ إذَا لَمْ يَتَهَرَّ، فَإِنْ تَهَرَّى تُرِكَ، وَلَا يَجْرِي هَذَا الْحُكْمُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِاخْتِصَاصِ حَرَمِ مَكَّةَ بِالنُّسُكِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَلَ الْكُفَّارَ مَسْجِدَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ " بَرَاءَةٌ "، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقَدِمَ الْوَفْدُ عَلَيْهِ سَنَةَ عَشْرٍ وَفِيهِمْ وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ فَأَنْزَلَهُمْ مَسْجِدَهُ وَنَاظَرَهُمْ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ (وَإِنْ مَرِضَ فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ حَرَمِ مَكَّةَ (مِنْ الْحِجَازِ وَعَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ فِي نَقْلِهِ) سَوَاءٌ خِيفَ مَعَ ذَلِكَ مَوْتُهُ أَمْ لَا (تُرِكَ) مُرَاعَاةً لِأَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي الْجُمْلَةِ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ تَعْظُمْ الْمَشَقَّةُ فِيهِ (نُقِلَ) مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الدَّارِ (فَإِنْ مَاتَ) فِيهِ (وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ) إلَى الْحِلِّ لِتَقَطُّعِهِ مَثَلًا (دُفِنَ هُنَاكَ) لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ لَمْ يُدْفَنْ هُنَاكَ، فَإِنْ دُفِنَ تُرِكَ. تَنْبِيهٌ: مَا ذُكِرَ فِي الذِّمِّيِّ. أَمَّا الْحَرْبِيُّ أَوْ الْمُرْتَدُّ فَلَا يُدْفَنُ فِيهِ، بَلْ تُغْرَى الْكِلَابُ عَلَى جِيفَتِهِ، فَإِنْ تَأَذَّى النَّاسُ بِرِيحِهِ وَوُرِيَ كَالْجِيفَةِ. . ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الْخَامِسِ، وَهُوَ الْمَالُ مُتَرْجِمًا لَهُ بِفَصْلٍ فَقَالَ: فَصْلٌ: (أَقَلُّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ لِكُلِّ سَنَةٍ): عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ {عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمُعَافِرِ} وَهِيَ ثِيَابٌ تَكُونُ بِالْيَمَنِ تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ أَقَلَّهَا دِينَارٌ أَوْ مَا قِيمَتُهُ دِينَارٌ، وَبِهِ أَخَذَ الْبُلْقِينِيُّ، وَالْمَنْصُوصُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ أَقَلَّهَا دِينَارٌ، وَعَلَيْهِ إذَا عَقَدَ بِهِ جَازَ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ مَا قِيمَتُهُ دِينَارٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ عَقْدُهَا بِمَا قِيمَتُهُ دِينَارٌ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ قَدْ تَنْقُصُ عَنْهُ آخِرَ الْمُدَّةِ، وَمَحَلُّ كَوْنِ أَقَلِّهَا دِينَارًا عِنْدَ قُوَّتِنَا، وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ الدَّارِمِيُّ عَنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْدُهَا بِأَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ، نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ ظَاهِرٌ مُتَّجَهٌ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِانْقِضَاءِ السَّنَةِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: اخْتَلَفَ قَوْمُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ أَوْ تَجِبُ بِانْقِضَائِهِ، وَبُنِيَ عَلَيْهِمَا إذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ هَلْ تَسْقُطُ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْعَقْدِ لَمْ تَسْقُطْ وَإِلَّا سَقَطَتْ حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي الْأَسْرَارِ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِ الْجِزْيَةِ.
المتن: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مُمَاكَسَةٌ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ مُتَوَسِّطٍ دِينَارَيْنِ وَغَنِيٍّ أَرْبَعَةً.
الشَّرْحُ: (وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مُمَاكَسَةٌ) أَيْ مُشَاحَّةُ الْكَافِرِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى دِينَارٍ، بَلْ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْقِدَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْقِدَ بِدُونِهِ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ، وَيُسَنُّ أَنْ يُفَاوِتَ بَيْنَهُمْ (حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ مُتَوَسِّطٍ دِينَارَيْنِ، وَ) مِنْ (غَنِيٍّ أَرْبَعَةً) وَمِنْ فَقِيرٍ دِينَارًا اقْتِدَاءً بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مُتَصَرِّفٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَاطَ لَهُمْ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُهَا إلَّا كَذَلِكَ. تَنْبِيهٌ: هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ. فَأَمَّا إذَا انْعَقَدَ الْعَقْدُ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ، وَنَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ، وَأَطْلَقَ الشَّيْخَانِ اسْتِحْبَابَ الْمُمَاكَسَةِ، فَأَخَذَ شَيْخُنَا مِنْ الْإِطْلَاقِ أَنَّ الْمُمَاكَسَةَ كَمَا تَكُونُ فِي الْعَقْدِ تَكُونُ فِي الْأَخْذِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الْأَصْحَابِ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ الْمُمَاكَسَةُ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ الْغَنِيِّ إلَخْ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ حَتَّى يَأْخُذَ: أَيْ إذَا مَاكَسَهُمْ فِي الْعَقْدِ فَيَأْخُذُ إلَخْ، فَإِنْ أَبَى الْكَافِرُ عَقْدَهَا إلَّا بِدِينَارٍ. أُجِيبَ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ، وَمَعْلُومٌ مِمَّا مَرَّ أَنَّ السَّفِيهَ لَا يُمَاكَسُ هُوَ وَلَا وَلِيُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ.
المتن: وَلَوْ عُقِدَتْ بِأَكْثَرَ ثُمَّ عَلِمُوا جَوَازَ دِينَارٍ لَزِمَهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ، فَإِنْ أَبَوْا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ نَاقِضُونَ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ عُقِدَتْ) لِلْكَافِرِ ذِمَّةٌ (بِأَكْثَرَ) مِنْ دِينَارٍ (ثُمَّ عَلِمُوا) بَعْدَ الْعَقْدِ (جَوَازَ دِينَارٍ لَزِمَهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ) كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ ثُمَّ عَلِمَ الْغَبَنَ (فَإِنْ أَبَوْا) بَذْلَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ (فَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ نَاقِضُونَ) لِلْعَهْدِ كَمَا لَوْ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ أَصْلِ الْجِزْيَةِ، فَيُبَلَّغُونَ الْمَأْمَنَ كَمَا سَيَأْتِي، وَالثَّانِي لَا، وَيَقْنَعُ مِنْهُمْ بِالدِّينَارِ كَمَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ بِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ بَلَغُوا الْمَأْمَنَ، ثُمَّ عَادُوا وَطَلَبُوا الْعَقْدَ بِدِينَارٍ أُجِيبُوا إلَيْهِ كَمَا لَوْ طَلَبُوهُ أَوَّلًا. . تَنْبِيهٌ: لَوْ شَرَطَ عَلَى الْغَنِيِّ كَذَا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ كَذَا، وَأَطْلَقَ الشَّرْطَ صَحَّ وَاعْتُبِرَ الْغِنَى وَغَيْرُهُ عِنْدَ الْأَخْذِ، فَإِنْ قُيِّدَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ بِوَقْتٍ اُتُّبِعَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي التَّوَسُّطِ أَوْ الْفَقِيرِ بِيَمِينِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ أَوْ عُهِدَ لَهُ مَالٌ، وَكَذَا مَنْ غَابَ وَأَسْلَمَ ثُمَّ حَضَرَ، وَقَالَ: أَسْلَمْتُ مِنْ وَقْتِ كَذَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ.
المتن: وَلَوْ أَسْلَمَ ذِمِّيٌّ أَوْ مَاتَ بَعْدَ سِنِينَ أُخِذَتْ جِزْيَتُهُنَّ مِنْ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا، وَيُسَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ دَيْنِ آدَمِيٍّ عَلَى الْمَذْهَبِ، أَوْ فِي خِلَالِ سَنَةٍ فَقِسْطٌ، وَفِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ أَسْلَمَ ذِمِّيٌّ) أَوْ نَبَذَ الْعَهْدَ (أَوْ مَاتَ بَعْدَ سِنِينَ) وَلَهُ وَارِثٌ مُسْتَغْرِقٌ (أُخِذَتْ جِزْيَتُهُنَّ) مِنْهُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَفِي الثَّالِثَةِ (مِنْ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى) حَقِّ الْوَرَثَةِ وَ (الْوَصَايَا) كَالْخَرَاجِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ. تَنْبِيهٌ: لَمْ يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ إسْلَامِهِ كَمَا ذَكَرَتْهُ لِوُضُوحِهِ. أَمَّا إذَا لَمْ يَخْلُفْ وَارِثًا فَتَرِكَتُهُ فَيْءٌ فَلَا مَعْنَى لَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ التَّرِكَةِ، ثُمَّ رَدِّهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ لَا يَسْتَغْرِقُ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ أُخِذَ مِنْ نَصِيبِ الْوَارِثِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْجِزْيَةُ، وَسَقَطَتْ حِصَّةُ بَيْتِ الْمَالِ (وَيُسَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ دَيْنِ آدَمِيٍّ عَلَى الْمَذْهَبِ)؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ حَتَّى تَكُونَ كَالزَّكَاةِ فَيُوَفَّى الْجَمِيعُ إنْ وَفَّتْ التَّرِكَةُ، وَإِلَّا ضَارَبَ الْإِمَامُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالْجِزْيَةِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي أَنَّهَا عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقِّ الْآدَمِيِّ فَتُقَدَّمُ هِيَ فِي قَوْلٍ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ فِي قَوْلٍ، وَيُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي قَوْلٍ، وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الْجِزْيَةَ غَلَبَ فِيهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا أُجْرَةٌ (أَوْ) أَسْلَمَ أَوْ نَبَذَ الْعَهْدَ أَوْ مَاتَ (فِي خِلَالِ سَنَةٍ فَقِسْطٌ) لِمَا مَضَى، كَالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالسُّكْنَى فَإِذَا سَكَنَ بَعْضَ الْمُدَّةِ وَجَبَ الْقِسْطُ (وَفِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ)؛ لِأَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْحَوْلُ فَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ كَالزَّكَاةِ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ فِي أَثْنَاءِ الْعَامِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِسْطُ حِينَئِذٍ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَهُوَ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ، لَكِنْ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى أَخْذِهِ. ا هـ. وَحَمَلَ شَيْخِي النَّصَّ عَلَى مَا إذَا قُسِّمَ مَالُهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَكَلَامُ الْبُلْقِينِيُّ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ حَمْلٌ حَسَنٌ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ شُهْبَةَ وَالْأُشْمُونِيُّ عَلَى عِبَارَةِ النَّصِّ وَقَالَا كَمَا حَكَاهُ الْبُلْقِينِيُّ، قَالَ يَعْنِي الْبُلْقِينِيُّ وَهُوَ فَرْعٌ حَسَنٌ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ، وَلَوْ جُنَّ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَتَمَّ وَهُوَ مَجْنُونٌ أُخِذَتْ جِزْيَتُهُ بِالْقِسْطِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ. .
المتن: وَتُؤْخَذُ بِإِهَانَةٍ فَيَجْلِسُ الْآخِذُ وَيَقُومُ الذِّمِّيُّ وَيُطَأْطِئُ رَأْسَهُ وَيَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَضَعُهَا فِي الْمِيزَانِ، وَيَقْبِضُ الْآخِذُ لِحْيَتَهُ، وَيَضْرِبُ لِهْزِمَتَيْهِ، وَكُلُّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ وَاجِبٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَهُ تَوْكِيلُ مُسْلِمٍ بِالْأَدَاءِ وَ حَوَالَةٌ عَلَيْهِ وَأَنْ يَضْمَنَهَا قُلْتُ: هَذِهِ الْهَيْئَةُ بَاطِلَةٌ وَدَعْوَى اسْتِحْبَابِهَا أَشَدُّ خَطَأً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَيُسْتَحَبُّ
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ بِقَوْلِهِ (وَتُؤْخَذُ) الْجِزْيَةُ (بِإِهَانَةٍ فَيَجْلِسُ الْآخِذُ) بِالْمَدِّ: أَيْ الْمُسْلِمُ (وَيَقُومُ الذِّمِّيُّ وَيُطَأْطِئُ رَأْسَهُ وَيَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَضَعُهَا) أَيْ الْجِزْيَةَ (فِي) كِفَّةِ (الْمِيزَانِ وَيَقْبِضُ الْآخِذُ) مِنْهُ الْجِزْيَةَ (لِحْيَتَهُ وَيَضْرِبُ لِهْزِمَتَيْهِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَالزَّايِ، وَهُمَا مَجْمَعُ اللَّحْمِ بَيْنَ الْمَاضِغِ وَالْأُذُنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَ الصَّغَارَ فِي الْآيَةِ بِهَذَا. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَضْرِبُ كُلَّ لِهْزِمَةٍ ضَرْبَةً وَهُوَ كَذَلِكَ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكْفِيَ الضَّرْبُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ يَضْرِبُهُ بِالْكَفِّ مَفْتُوحًا. وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ: وَيَقُولُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَدِّ حَقَّ اللَّهِ (وَكُلُّهُ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْهَيْئَةِ (مُسْتَحَبٌّ) لِسُقُوطِهِ بِتَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ كَمَا سَيَأْتِي (وَقِيلَ وَاجِبٌ) لِيَحْصُلَ الصَّغَارُ الْمَذْكُورُ (فَعَلَى الْأَوَّلِ) وَهُوَ الِاسْتِحْبَابُ (لَهُ) أَيْ الذِّمِّيِّ (تَوْكِيلُ مُسْلِمٍ بِالْأَدَاءِ) لِلْجِزْيَةِ (وَ) لَهُ (حَوَالَةٌ) بِهَا (عَلَيْهِ، وَأَنْ يَضْمَنَهَا)؛ لِأَنَّ الصَّغَارَ حَاصِلٌ بِالْتِزَامِهِ الْمَالَ وَانْقِيَادِهِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ بِخِلَافِهِ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ الْوُجُوبُ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ: مُسْلِمٌ قَدْ يُفْهِمُ صِحَّةَ تَوْكِيلِ الذِّمِّيِّ بِهِ قَطْعًا، وَنَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ طَرْدُ الْخِلَافِ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالصَّغَارِ وَأَقَرَّاهُ، فَلَوْ حَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ لَشَمِلَ ذَلِكَ، وَاحْتُرِزَ بِالْأَدَاءِ عَنْ تَوْكِيلِهِ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الصَّغَارَ يُرَاعَى عِنْدَ الْأَدَاءِ، لَا عِنْدَ الْعَقْدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا فِيمَا يُؤَدَّى بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ كَانَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ سَقَطَتْ الْإِهَانَةُ قَطْعًا ( قُلْتُ: هَذِهِ الْهَيْئَةُ) الْمَذْكُورَةُ فِي الْمُحَرَّرِ (بَاطِلَةٌ)؛ لِأَنَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا مِنْ السُّنَّةِ، وَلَا نُقِلَ عَنْ فِعْلِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ (وَ) حِينَئِذٍ (دَعْوَى اسْتِحْبَابِهَا أَشَدُّ خَطَأً) مِنْ دَعْوَى جَوَازِهَا، وَدَعْوَى وُجُوبِهَا أَشَدُّ خَطَأً مِنْ دَعْوَى اسْتِحْبَابِهَا (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ: أَشَدُّ بُطْلَانًا لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ: بَاطِلَةٌ. قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَاطِلَةِ الْخَطَأَ. قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ: وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ. وَقَالَ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ بِرِفْقٍ كَأَخْذِ الدُّيُونِ. ا هـ. قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ تَحَمُّلٌ عَلَى الذَّاكِرِينَ لَهَا، وَلِلْخِلَافِ فِيهَا الْمُسْتَنِدِ إلَى تَفْسِيرِ الصَّغَارِ فِي الْآيَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ. قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟. وَقَضِيَّةُ كَوْنِهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ التَّحْرِيمُ. ا هـ. وَتَصْرِيحُ الْمُصَنِّفِ بِالْبُطْلَانِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَيَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَجْبِيَ الْجِزْيَةَ وَعُشْرَ التِّجَارَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ (وَيُسْتَحَبُّ) وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةَ كَلَامِ الْجُمْهُورِ الْجَوَازُ.
المتن: لِلْإِمَامِ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِمْ إذَا صُولِحُوا فِي بَلَدِهِمْ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ زَائِدًا عَلَى أَقَلِّ جِزْيَةٍ، وَقِيلَ يَجُوزُ مِنْهَا، وَتُجْعَلُ عَلَى غَنِيٍّ وَمُتَوَسِّطٍ، لَا فَقِيرٍ فِي الْأَصَحّ، وَيَذْكُرُ عَدَدَ الضِّيفَانِ رِجَالًا وَفُرْسَانًا، وَجِنْسُ الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ وَقَدْرُهُمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ كَذَا، وَعَلَفَ الدَّوَابِّ، وَمَنْزِلَ الضِّيفَانِ مِنْ كَنِيسَةٍ وَفَاضِلِ مَسْكَنٍ وَمُقَامَهُمْ، وَلَا يُجَاوِزُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
الشَّرْحُ: (لِلْإِمَامِ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَشْرِطَ) بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ (عَلَيْهِمْ) أَيْ الْكُفَّارِ (إذَا صُولِحُوا فِي بَلَدِهِمْ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَارُّ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا. لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ أَيْلَةَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَعَلَى ضِيَافَةِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ}، وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً ظَاهِرَةً لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَغْنِيَائِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ لَا يَبِيعُونَ مِنْهُمْ إذَا مَرُّوا بِهِمْ فَيَتَضَرَّرُونَ، فَإِذَا عَلِمُوا أَنَّ ضِيَافَتَهُمْ عَلَيْهِمْ وَاجِبَةٌ بَادَرُوا إلَى الْبَيْعِ خَوْفًا مِنْ نُزُولِهِمْ عِنْدَهُمْ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ فِي بَلَدِهِمْ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِيمَا إذَا صُولِحُوا فِي بَلَدِنَا. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَبِهِ صَرَّحَ سُلَيْمٌ فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَوْ صُولِحُوا فِي بِلَادِنَا وَانْفَرَدُوا فِي قَرْيَةٍ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَكَلَامُ كَثِيرٍ يَقْتَضِيهِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَنْ يَشْرِطَ هُوَ الْمَفْعُولُ النَّائِبُ عَنْ فَاعِلِ يُسْتَحَبُّ: أَيْ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْإِمْكَانِ اشْتِرَاطُ الضِّيَافَةِ لَا أَنَّهُ فَاعِلُ أَمْكَنَهُ وَيَكُونُ مَا ذُكِرَ (زَائِدًا عَلَى أَقَلِّ جِزْيَةٍ)؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّمَلُّكِ، وَالضِّيَافَةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَلَمْ يَجُزْ الِاكْتِفَاءُ بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ التَّغْدِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عَنْ الْكَفَّارَةِ (وَقِيلَ يَجُوزُ) أَنْ تُحْسَبَ الضِّيَافَةُ (مِنْهَا)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إلَّا الْجِزْيَةُ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الضَّيْفُ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ (وَتُجْعَلُ) الضِّيَافَةُ (عَلَى غَنِيٍّ وَمُتَوَسِّطٍ، لَا) عَلَى (فَقِيرٍ فِي الْأَصَحِّ) الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهَا تَتَكَرَّرُ فَيَعْجِزُ عَنْهَا. وَالثَّانِي عَلَيْهِ أَيْضًا كَالْجِزْيَةِ (وَيَذْكُرُ) الْعَاقِدُ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الضِّيَافَةِ ( عَدَدَ الضِّيفَانِ) بِكَسْرِ الضَّادِ جَمْعُ ضَيْفٍ، مِنْ ضَافَ إذَا مَالَ (رِجَالًا وَفُرْسَانًا)؛ لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلْمُنَازَعَةِ وَأَنْفَى لِلْغَرَرِ. تَنْبِيهٌ: كَلَامُهُ صَادِقٌ بِأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنْ يَقُولَ: أَقْرَرْتُكُمْ عَلَى أَنَّ عَلَى الْغَنِيِّ مِنْكُمْ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَضِيَافَةَ عَشَرَةِ أَنْفُسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَجَّالَةً كَذَا وَفُرْسَانًا كَذَا، أَوْ عَلَى الْمَجْمُوعِ كَأَنْ تُضَيِّفُوا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ مُسْلِمٍ، ثُمَّ هُمْ يُوَزِّعُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ يَتَحَمَّلُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَإِذَا تَفَاوَتُوا فِي الْجِزْيَةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُفَاوِتَ بَيْنَهُمْ فِي الضِّيَافَةِ فَيَجْعَلُ عَلَى الْغَنِيِّ عِشْرِينَ مَثَلًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ عَشَرَةً، وَلَا يُفَاوِتُ بَيْنَهُمْ فِي جِنْسِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ عَلَى الْغَنِيِّ أَطْعِمَةً فَاخِرَةً أَجْحَفَ بِهِ الضِّيفَانَ، وَإِنْ ازْدَحَمَ الضِّيفَانُ عَلَى الْمُضِيفِ لَهُمْ أَوْ عَكْسُهُ خُيِّرَ الْمُزْدَحَمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَثُرَتْ الضِّيفَانُ عَلَيْهِمْ بَدَءُوا بِالسَّابِقِ لِسَبْقِهِ، وَإِنْ تَسَاوَوْا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَلْيَكُنْ لِلضِّيفَانِ عَرِيفٌ يُرَتِّبُ أَمْرَهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ (وَ) يُذْكَرُ (جِنْسُ الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ وَقَدْرُهُمَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ) مِنْ الضِّيفَانِ (كَذَا) مِنْ الْخُبْزِ، وَكَذَا مِنْ السَّمْنِ أَوْ الزَّيْتِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلْغَرَرِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ طَعَامُهُمْ وَأُدْمُهُمْ نَفْيًا لِلْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ الْحِنْطَةَ وَيَتَأَدَّمُونَ بِاللَّحْمِ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ الشَّعِيرَ وَيَتَأَدَّمُونَ بِالْأَلْبَانِ أَضَافُوهُمْ بِذَلِكَ. تَنْبِيهٌ: اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى ذِكْرِ الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ يَقْتَضِي أَنَّ مَا سِوَاهُمَا مِنْ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ لَا يَلْزَمُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ إنْ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا غَالِبًا فِي كُلِّ يَوْمٍ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي زَمَانِهَا، بِخِلَافِ الْفَوَاكِهِ النَّادِرَةِ وَالْحَلْوَاءِ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْحَمَّامِ وَثَمَنُ الدَّوَاءِ، وَلَيْسَ لِلْأَضْيَافِ أَنْ تُكَلِّفَهُمْ مَا لَيْسَ بِغَالِبٍ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ، وَلَا ذَبْحَ دَجَاجِهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ كَذَا هُوَ بِخَطِّهِ، وَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ وَيُقَدَّمُ الطَّعَامُ وَالْأُدْمُ فَيَقُولُ: لِكُلِّ وَاحِدٍ كَذَا مِنْ الْخُبْزِ وَكَذَا مِنْ السَّمْنِ (وَ) يَذْكُرُ (عَلَفَ الدَّوَابِّ) وَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ بَلْ يَكْفِي الْإِطْلَاقُ، وَيُحْمَلُ عَلَى تِبْنٍ وَقَتٍّ وَحَشِيشٍ، وَيُرْجَعُ فِيهِ لِلْعَادَةِ، وَلَا يَجِبُ الشَّعِيرُ وَنَحْوُهُ إلَّا مَعَ التَّصْرِيحِ بِهِ فَإِنْ ذَكَرَهُ بَيَّنَ قَدْرَهُ. تَنْبِيهٌ: قَدْ يُوهِمُ كَلَامُهُ أَنَّهُ يَعْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَوَابَّهُ، لَكِنْ إنْ لَمْ يُعَيِّنْ عَدَدًا مِنْهَا لَمْ يَعْلِفْ إلَّا وَاحِدَةً عَلَى النَّصِّ (وَ) يَذْكُرُ (مَنْزِلَ الضِّيفَانِ مِنْ كَنِيسَةٍ وَفَاضِلِ مَسْكَنٍ) عَنْ أَهْلِهِ وَلَا يُخْرِجُونَ أَهْلَ الْمَسَاكِنِ مِنْهَا وَإِنْ ضَاقَتْ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَجِبُ أَنْ تُعَلَّقَ الْأَبْوَابُ لِيَدْخُلَهَا الْمُسْلِمُونَ رُكْبَانًا كَمَا شَرَطَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ (وَ) يَذْكُرُ (مُقَامَهُمْ) بِضَمِّ الْمِيمِ: أَيْ قَدْرَ إقَامَةِ الضِّيفَانِ. فِي الْحَوْلِ كَعِشْرِينَ يَوْمًا. أَمَّا بِفَتْحِهِ فَمَعْنَاهُ الْقِيَامُ (وَلَا يُجَاوِزُ) الْمُضِيفُ فِي الْمُدَّةِ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ {الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ} وَلِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مَشَقَّةً، فَإِنْ وَقَعَ تَوَافُقٌ عَلَى زِيَادَةٍ جَازَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَنَقَلَ فِي الذَّخَائِرِ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ تَزْوِيدَ الضَّيْفِ كِفَايَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. تَنْبِيهٌ: لَوْ اعْتَاضَ الْإِمَامُ عَنْ الضِّيَافَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ بِرِضَاهُمْ جَازَ، وَاخْتَصَّتْ بِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَلِضَيْفِهِمْ حَمْلُ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ أَكْلٍ بِخِلَافِ طَعَامِ الْوَلِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَكْرُمَةٌ، وَمَا هُنَا مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْعِوَضِ، وَلَا طَعَامِ الْغَدِ، وَلَا طَعَامِ أَمْسِ الَّذِي لَمْ يَأْتُوا بِطَعَامِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ زَائِدَةٌ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ الضِّيَافَةِ جَمَاعَةٌ أُجْبِرُوا عَلَيْهَا، فَإِنْ امْتَنَعَ الْكُلُّ قُوتِلُوا، فَإِنْ قَاتَلُوا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، قَالَهُ مُجَلِّي.
المتن: وَلَوْ قَالَ قَوْمٌ نُؤَدِّي الْجِزْيَةَ بِاسْمِ صَدَقَةٍ لَا جِزْيَةٍ فَلِلْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إذَا رَأَى.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ قَالَ قَوْمٌ) مِنْ الْكُفَّارِ مِمَّنْ تُعْقَدُ لَهُمْ الْجِزْيَةُ (نُؤَدِّي الْجِزْيَةَ بِاسْمِ صَدَقَةٍ، لَا) بِاسْمِ (جِزْيَةٍ) وَقَدْ عَرَفُوهَا حُكْمًا وَشَرْطًا (فَلِلْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إذَا رَأَى) ذَلِكَ وَتَسْقُطُ عَنْهُمْ الْإِهَانَةُ وَاسْمُ الْجِزْيَةِ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْ تَنَصَّرَ مِنْ الْعَرَبِ قَبْلَ بَعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ تَنُوخُ وَنَهَرَا وَبَنُو تَغْلِبَ لَمَّا طَلَبَهَا مِنْهُمْ أَبَوْا دَفْعَهَا وَقَالُوا نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا تُؤَدِّي الْعَجَمُ، فَخُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، يُرِيدُونَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ إنَّهَا طُهْرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَسْتُمْ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَالُوا: تَأْخُذُ مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسْمِ لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَأَبَى فَارْتَحَلُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَلْتَحِقُوا بِالرُّومِ، فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذَهَا جِزْيَةً بِاسْمِ الصَّدَقَةِ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَعَقَدَ لَهُمْ الذِّمَّةَ مُؤَبَّدًا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُ مَا فَعَلَهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، هَذَا إذَا تَيَقَّنَّا وَفَاءَهَا بِدِينَارٍ، وَإِلَّا فَلَا يُجَابُوا، وَلَوْ اقْتَضَى إجَابَتَهُمْ تَسْلِيمُ بَعْضٍ مِنْهُمْ عَنْ بَعْضِ مَا الْتَزَمُوهُ فَإِنَّهُمْ يُجَابُونَ، وَلِبَعْضِهِمْ أَنْ يَلْتَزِمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ وَغَرَضُنَا تَحْصِيلُ دِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، فَيَقُولُ الْإِمَامُ فِي صُورَةِ الْعَقْدِ: جَعَلْتُ عَلَيْكُمْ ضِعْفَ الصَّدَقَةِ، أَوْ صَالَحْتُكُمْ عَلَيْهِ، أَوْ نَحْوُهُ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ: فَلِلْإِمَامِ إلَخْ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ وَهُوَ كَذَلِكَ بِخِلَافِ بَذْلِهِمْ الدِّينَارَ. نَعَمْ تَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِقُوَّتِهِمْ وَضَعْفِنَا أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ إذَا أَبَوْا الدَّفْعَ إلَّا بِاسْمِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهَا جِزْيَةٌ حَقِيقَةً كَمَا سَيَأْتِي. .
المتن: وَيُضَعِّفُ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ فَمِنْ خَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ شَاتَانِ، وَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ بِنْتَا مَخَاضٍ، وَ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ، وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَشَرَةٌ وَخُمُسُ الْمُعَشَّرَاتِ، وَلَوْ وَجَبَ بِنْتَا مَخَاضٍ مَعَ جُبْرَانٍ لَمْ يُضَعِّفْ الْجُبْرَانَ فِي الْأَصَحِّ، وَلَوْ كَانَ بَعْضَ نِصَابٍ لَمْ يَجِبْ قِسْطُهُ فِي الْأَظْهَرِ، ثُمَّ الْمَأْخُوذُ جِزْيَةٌ، فَلَا
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَيَانِ التَّضْعِيفِ فَقَالَ (وَيُضَعِّفُ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ، فَمِنْ خَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ شَاتَانِ) وَمِنْ عَشَرَةٍ أَرْبَعَةٌ، وَمِنْ خَمْسَةَ عَشْرَ سِتُّ شِيَاهٍ، وَمِنْ عِشْرِينَ ثَمَانِ شِيَاهٍ (وَ) مِنْ (خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ) بَعِيرًا (بِنْتَا مَخَاضٍ) وَمِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ شَاتَانِ، وَمِنْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعَانِ، وَمِنْ مِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ ثَمَانِ حِقَاقٍ، أَوْ عَشْرُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَلَا يُفَرِّقُ فَلَا يَأْخُذُ أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَخَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ، كَمَا لَا يُفَرِّقُ فِي الزَّكَاةِ، كَذَا قَالَاهُ. قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي: قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا تَشْقِيصَ هُنَا بِخِلَافِ مَا هُنَاكَ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ (وَمِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ، وَ) مِنْ (مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَشَرَةٌ) مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَمِنْ الرِّكَازِ خُمُسَانِ (وَخُمُسُ الْمُعَشَّرَاتِ) فِيمَا سُقِيَ بِلَا مُؤْنَةٍ، وَالْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِهَا (وَلَوْ وَجَبَ) عَلَى كَافِرٍ (بِنْتَا مَخَاضٍ) مَثَلًا (مَعَ جُبْرَانٍ) كَأَنْ كَانَ عِنْدَهُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ وَفَقَدَ بِنْتَيْ لَبُونٍ (لَمْ يُضَعِّفْ الْجُبْرَانَ) عَلَيْهِ (فِي الْأَصَحِّ) الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ لِئَلَّا يَكْثُرَ التَّضْعِيفُ، وَلِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الْجُبْرَانَ تَارَةً يُؤْخَذُ وَتَارَةً يُدْفَعُ، وَلَوْ ضَعَّفْنَاهُ عِنْدَ الْأَخْذِ لَزِمَ أَنْ يُضَعَّفَ عِنْد الدَّفْعِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ قَطْعًا. وَالثَّانِي يُضَعَّفُ فَيَأْخُذُ مِنْ كُلِّ بِنْتِ مَخَاضٍ أَرْبَعَ شِيَاهِ، أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَلَوْ دَفَعَ حِقَّتَيْنِ بَدَلَ بِنْتَيْ لَبُونٍ لَمْ يُضَعَّفْ لَهُ الْجُبْرَانُ كَمَا مَرَّ. تَنْبِيهٌ: قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَفِي تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالْأَصَحِّ مُنَاقَشَةٌ، فَإِنَّ مُقَابِلَهُ سَاقِطٌ، بَلْ قَالَ الْإِمَامُ: إنَّهُ غَلَطٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا يَنْبَغِي عَدُّهُ مِنْ الْمَذْهَبِ ا هـ. وَيُعْطِي الْإِمَامُ الْجُبْرَانَ مِنْ الْفَيْءِ كَمَا يَصْرِفُهُ إذَا أَخَذَهُ إلَى الْفَيْءِ (وَلَوْ كَانَ) مَا عِنْدَ الْكَافِرِ (بَعْضَ نِصَابٍ) مِنْ مَالٍ زَكَوِيٍّ كَمِائَةِ دِرْهَمٍ (لَمْ يَجِبْ قِسْطُهُ) مِنْ تَمَامِ النِّصَابِ (فِي الْأَظْهَرِ) كَشَاةٍ مِنْ عِشْرِينَ وَنِصْفِ شَاةٍ مِنْ عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّ أَثَرَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّمَا وَرَدَ فِي تَضْعِيفِ مَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ لَا فِي إيجَابِ مَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَالثَّانِي يَجِبُ قِسْطُهُ رِعَايَةً لِلتَّضْعِيفِ. تَنْبِيهٌ: هَذَا إنْ لَمْ يُخَالِطْ غَيْرَهُ، فَإِنْ خَلَطَ عِشْرِينَ شَاةً بِعِشْرِينَ شَاةً لِغَيْرِهِ أَخَذَ مِنْهُ شَاةً إنْ ضَعَّفْنَا، وَلَوْ عَبَّرَ بِالْمَشْهُورِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مُقَابِلَهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْأَوْقَاصِ الَّتِي بَيْنَ النُّصُبِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ النِّصَابُ كُلَّ الْحَوْلِ أَوْ آخِرَهُ؟ وَجْهَانِ: فِي الْكِفَايَةِ قِيَاسُ بَابِ الزَّكَاةِ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ، وَقِيَاسُ اعْتِبَارِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالتَّوَسُّطِ آخِرَ الْحَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ تَرْجِيحُ الثَّانِي، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ (ثُمَّ الْمَأْخُوذُ) بِاسْمِ الزَّكَاةِ مُضَعَّفًا أَوْ غَيْرَ مُضَعَّفٍ (جِزْيَةٌ) وَإِنْ بُدِّلَ اسْمُهَا تُصْرَفُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ. فَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَؤُلَاءِ حَمْقَاءُ أَبَوْا الِاسْمَ وَرَضَوْا بِالْمَعْنَى. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ: جِزْيَةٌ هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، يُوجَدُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَتْنِ: بَعْدَ جِزْيَةٍ حَقِيقَةً، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى إسْقَاطِ الْخَافِضِ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِغَيْرِهِ، وَعَلَى كَوْنِ الْمَأْخُوذِ جِزْيَةً (فَلَا) يَنْقُصُ عَنْ دِينَارٍ حَتَّى لَوْ وَفَّى قَدْرَ الزَّكَاةِ بِلَا تَضْعِيفٍ أَوْ نِصْفَهَا بِالدِّينَارِ يَقِينًا لَا ظَنًّا كَفَى أَخْذُهُ، فَلَوْ كَثُرُوا وَعَسُرَ عَدَدُهُمْ لِمَعْرِفَةِ الْوَفَاءِ بِالدِّينَارِ لَمْ يَجُزْ الْأَخْذُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، بَلْ يُشْتَرَطُ تَحَقُّقُ أَخْذِ دِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، وَلَا يَتَعَيَّنُ تَضْعِيفُهَا، وَلَا تَنْصِيفُهَا، فَيَجُوزُ تَرْبِيعُهَا وَتَخْمِيسُهَا وَنَحْوُهُمَا عَلَى مَا يَرَوْنَهُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ. وَلَا (يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ مَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ) كَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَامْرَأَةٍ وَخُنْثَى بِخِلَافِ الْفَقِيرِ. قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ: وَإِذَا شُرِطَ ضِعْفُ الصَّدَقَةِ وَزَادَ عَلَى دِينَارٍ، ثُمَّ سَأَلُوا إسْقَاطَ الزِّيَادَةِ وَإِعَادَةَ اسْمِ الْجِزْيَةِ أُجِيبُوا عَلَى الصَّحِيحِ ا هـ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهَا لَوْ عُقِدَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ ثُمَّ عَلِمُوا جَوَازَ دِينَارٍ لَزِمَهُمْ مَا الْتَزَمُوا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الِاسْمِ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ. تَتِمَّةٌ: لَوْ صَالَحْنَاهُمْ وَأَبْقَيْنَا أَرْضَهُمْ عَلَى مِلْكِهِمْ وَضَرَبْنَا عَلَيْهَا خَرَاجًا يُؤَدُّونَهُ كُلَّ سَنَةٍ عَنْ كُلِّ جَرِيبٍ كَذَا يَفِي ذَلِكَ الْخَرَاجُ بِالْجِزْيَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ فَالْمَأْخُوذُ جِزْيَةً يُصْرَفُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَامْرَأَةٍ وَخُنْثَى، وَيُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ تُزْرَعْ الْأَرْضُ، أَوْ بَاعُوهَا، أَوْ وَهَبُوهَا مَا لَمْ يُسْلِمُوا؛ لِأَنَّهُ جِزْيَةٌ كَمَا مَرَّ فَإِنْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، أَوْ اسْتَأْجَرَهَا فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ، وَالْخَرَاجُ بَاقٍ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُؤَجِّرِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْخَرَاجُ فِي مَوَاتٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ، لَا فِيمَا لَا يَذُبُّونَ عَنْهُ وَإِنْ أَحْيَوْهُ إلَّا إنْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْيُونَهُ، وَإِنْ ضَرَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا وَيَسْكُنُونَهَا وَيُؤَدُّونَ كُلَّ سَنَةِ عَنْ كُلِّ جَرِيبٍ كَذَا فَالْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ أُجْرَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَقْدُ إجَارَةٍ فَلَا سَقَطَ بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَبْلُغَ دِينَارًا وَالْجِزْيَةُ بَاقِيَةٌ فَتَجِبُ مَعَ الْأُجْرَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ الْأَرْضِ وَلَا هِبَتُهَا، وَلَهُمْ إجَارَتُهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يُؤَجِّرُ وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ أَرْضِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ. .
|